حوارٌ مبين في زيارة الأمين (١١)

بقلم: علوية الحسيني ودعاء الربيعي "مُفارقةً لأخلاق أعدائِكَ" الأسئلةُ حولَ هذه الفقرة هي كالتالي: ■السؤالُ الأول: ما المُرادُ من مُفردة الخُلُق؟ وكيف وضَّحَ القرآن الكريم هذا المفهوم؟ ج/ الخُلُق: هو "عبارة عن هيئةٍ قائمةٍ في النفس، تصدرُ منها الأفعالُ بسهولةٍ من دون الحاجةِ إلى تدبّرٍ وتفكّرٍ"(1). أما القرآنُ الكريم فقد تعرّضَ إلى الأخلاقِ بقسميها الحسنة والسيئة, مؤكدًا على ضرورة التحلّي بالأولى, ناهيًا عن التخلّق بالثانية. هو كتابُ هدى وكمال, رسمَ للإنسان قواعدَ الأخلاقِ في التعاملِ مع بني أقرانه, كقوله (تعالى): {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم}(2), فالآيةُ الكريمةُ تُشيرُ إلى التصدُّق, ذلك الخُلُق العظيم الذي يؤدي إلى التكافلِ الاجتماعي. وآياتٌ أخرى رسمتْ له أخلاقياتِ التعامُلِ مع ربِّه, كقوله (تعالى): {مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه}(3), فالآيةُ الكريمةُ تُشيرُ إلى العلاقة بين العبدِ وربِّه إذا كانت مشوبةً بالتعدّي على الحدود التي رسمها اللهُ (تعالى) لعباده. ومن ناحيةٍ أخرى نجدُه قد رسمَ لنا قواعدَ أخلاقِ المهن, وأخرى نجدُه قد رسمَ لنا أخلاقياتِ بناءِ الذاتِ الإنسانية, وهكذا. وبما أنّ الأخلاقَ أحدُ رؤوسِ هرمِ المنظومةِ المعرفية الدينية بالإضافةِ إلى أصولِ الدّين –العقيدة- وفروعه -الفقه-, فقد أولى لها القرآنُ الكريمُ درجةً من الأهمية, وحثّ ما حثّ عليه من فضائلها, ونهى ما نهى عنه من رذائلها. ■السؤال الثاني: من هُم أعداء الله (تعالى) المقصودون في الزيارة بحيث يطلبُ الإمامُ السجاد من الله (تعالى) أنْ يُبعدَه ويُجنبه أخلاقَهم؟ ج/ إنّ الله (تعالى) ذكر أعداءه في كتابه الكريم في آياتٍ عديدة, منها آياتٌ أوضحتْ مصيرَ أعداءِ الله (تعالى) فقط دون أنْ تُحدِّدَ ماهيةَ أولئك الأعداء، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُون}(4), وكقوله (تعالى): {ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْد}(5), ومنها ما أوضحتْ عدم محبةِ الله (تعالى) بمن عاداه, كقوله (تعالى): {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين}(6). وبما أنّ القرآن الكريم يفسّر بعضُه بعضًا, فنجدُ المرادَ من (أعداء الله (تعالى)) في آياتٍ أُخر, منها ما عرّفتهم بالظالمين؛ كقوله (تعالى): {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}(7), وأولُ من تعدّى حدود الله (تعالى) هو ابليس, فكان أولَ أعداءِ الله (تعالى), ولهذا نهانا (سبحانه) عن اتّباعه بقوله (تعالى): {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين}(8). ومن تلك الآيات ما عرّفت أعداء الله بالكافرين؛ كقوله (تعالى): {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين}(9). ومن تلك الآيات ما عرّفتهم بأنّهم أعداءُ رسلِ الله (تعالى) وملائكته, وبالتالي هم كافرون, وهذا ما صرّحتْ به هذه الآية الكريمة في ذيلها: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين}(10), فالآيةُ الكريمةُ أشارت إلى حكمِ المُعادي الكافر بأوائل أصولِ الدّين: التوحيد -بقوله عدوًا لله- , والعدل الإلهي -بقوله وملائكته التي هي أحد الطرق التي يُكلّم الله (تعالى) به أنبياءه ورسله بالتكاليف الشرعية فيوصلونها إلى العباد, وذلك من عدله (تعالى) أنّه يُعلِّم عبادَه بالتكاليف ثم يُثيب المطيع, ويعاقب العاصي-, والنبوة –بقوله ورسله-. *فائدة: إنّ الآيةَ الكريمة حينما قالتْ من كان عدوًا لملائكةِ الله (تعالى) فإنّها أوضحتِ المقصودَ من معاداةِ الكفار للملائكة وذلك بعدمِ الإيمان بهم, إلاّ أنّ الآيةَ عطفتْ في الحكم -معاداةَ الله (تعالى) لهم-, فقالت: من كان عدوًا لله, وملائكته, ورسله, وجبريل, وميكال (عليهما السلام). فتكرارُ العطفِ على فردين من أفراد الملائكة جبرائيل وميكائيل (عليهما السلام) رغم أنّ نوعَ الملائكةِ قد ذُكِرَ في بداية الآية, يدعو إلى التساؤل: لماذا التكرار؟! جوابه: نحنُ نعتقدُ أنّ الله (تعالى) حكيمٌ, منزّهٌ عن اللغوِ في الحديث, فحينما كرّرَ حكمَ معاداةِ الملَكين -جبرائيل وميكائيل (عليهما السلام)- فلعله كان ذلك منه إشارةً منه (تعالى) إلى ما صدرَ من الكافرين في زمن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) حينما كفروا ببعض الملائكة؛ فكان سببُ نزولِ هذه الآية: "أنّ ابن صوريا وجماعةً من اليهودِ جاؤوا للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: خصلةٌ واحدةٌ إنْ قلتَها آمنتُ بك واتبعتُك. فسألوه: أيّ ملكٍ يأتيك بما يُنزل الله عليك؟ قال (صلى الله عليه وآله): جبريل. قال ابن صوريا: ذاكَ عدوّنا ينزِلُ بالقتال والشدّة والحرب، وميكائيل ينزِلُ باليُسر والرخاء. وطلبوا أنْ يكونَ ميكائيلُ هو الذي يُنزّل الأحكامَ من عندِ الله (تعالى) على قلبِ النبي (صلى الله عليه وآله) حتى يؤمنوا به!"(11), وما كانَ ذلك إلاّ تملُّصًا من الإيمان بالدعوة المحمدية إلى دين الله (تعالى). وبهذا يتضحُ لنا من هم أعداء الله (تعالى), وهذا ينطبقُ على ذراريهم, ومؤيديهم, وإنْ كانوا يطلقون على أنفسهم أنّهم مسلمون. ■السؤال الثالث: هل المرادُ من المُفارقةِ لأخلاق أعداءِ الله تعالى هي نفسها البراءةُ منهم، أم أنّ مفهومَ البراءة يختلفُ عن مفهومِ المفارقة؟ ج/ نعم, فكما توجدُ هناك ملازمةٌ بين أخلاق الله (تعالى) وأوليائه ووجوب الاتصاف بها, توجد ملازمةٌ بين أخلاقِ أعداء الله (تعالى) ووجوب النفورِ منها والتبرّي من أصحابِها. وبالعقلِ -إجمالًا- يستطيعُ كلّ إنسانٍ أنْ يُفرّقَ بين الأمورِ الحسنة والسيئة, فيُدرك أنّ الكذبَ -مثلاً- قبيحٌ فلا يكذب, ويُدرك في قباله أنّ الصدقَ -مثلاً- حسنٌ فيتصف به. إذًا فمسألة التمييز بين الحسن والقبح لها تأصيل عقلي؛ والأخلاق من المسائل التي تخضع لذلك, فبالعقل أُدرِكَتِ الأخلاق حتى قبل العلم بالنصوص النقلية الصادرة عن النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)؛ بدليل قوله (عليه وآله السلام) : "إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(12), فلم يقل لأعلِّم الأخلاق, وإنّما ليتمم ما هو موجود لديهم بالفطرة, ويبيّن لهم أكمل الأخلاق. وعليه, إنّ الإنسانَ يُدركُ بعقله الأخلاقَ السيئة التي توجبُ غضبَ الله (تعالى) فينفر منها, ويتبرأ ممن يتصف بها. كما يدرك بعقله الأخلاق الحسنة التي توجب رضا الله (تعالى) فيتصف بها, ويوالي من يتصف بها. إذًا فالنفورُ شيئًا فشيئًا من أخلاقِ أعداء الله (تعالى) يؤدي إلى البراءة منها وممن يتصف بها. كما التحلّي بأخلاقِ أولياء الله (تعالى) يؤدي إلى اكتسابها وتولّي من يتصف بها. ■السؤال الرابع: كيف يُمكِنُ لنا أنْ نُقبّحَ أفعالَ وأخلاقَ أعداء الله (تعالى) في أعيُنِ الناس حتى يتجنبوا محاكاتها أو اتباعها؟ وما هي الرسالة التي من الممكنِ أنْ نوجهها للأجيالِ الشابة فيما يخصُّ الابتعاد عن أخلاق أعداء الله (تعالى)؟ ج/ قُلنا سابقًا إنّ الأمورَ القبيحةَ واضحةٌ عقلًا عندَ كلِّ إنسان؛ طبقًا لنظريةِ (الحسن والقبح العقليين), فالقبيحُ قبيحٌ لا يحتاجُ لأن نُقبّحه لسالكيه, فمنْ يتصف بقبائحِ الأخلاق يُدرك حتمًا أنّه على غيرِ الحالةِ المُعتادة عندَ عامةِ الناس من الأخلاقِ الحسنة؛ بدليلِ أنّ البعضَ حينما يريدُ أنْ يعكسَ قُبحَ أخلاقِه يتردّدُ ويخشى الناس, فنجدُه لا يكذبُ أمام أيّ أحدٍ, ولا يخونُ, ولا يُفشي سرًا أمامَ أيّ أحد. وفي أحيانٍ أخرى نجدُ البعض يتجاهرُ بقبائحِ الأخلاقِ أمامَ الملأ, كمن يتعدّى حدودَ الله (تعالى) ويسبُّ اللهَ ورسولَه وكلَّ من ينصحه, فهؤلاء رانَ على قلوبِهم ما كانوا يكسبون, بل وبعضُ الآياتِ تصفُهم بأنّهم كالأنعامِ وأضل, بعد عدمِ استجابتِهم للرشد, وعدم ارعوائهم عن طريقِ الغي. وأمّا الرسالةُ التي من الممكن أنْ نوجهَها لكلِّ من يتخلّق بأخلاقِ أعداء الله (تعالى) فتتمثل بالنقاط التالية: 1/ ضرورةُ معرفةِ الآثار السلبية من الاتصافِ بأخلاقِ أعداء الله (تعالى) (الأخلاق القبيحة), من قبيل: أ- فساد الإيمان: عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "إنّ سوءَ الخُلُق ليفسدَ الإيمان كما يُفسِدُ الخلُّ العسل"(13). ب- تعذيب النفس: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "من ساء خُلُقه عذّب نفسه"(14), حيثُ إنّ الجميعَ ينفرُ منه؛ لسوء خلقه, فيبقى معتزلًا مستوحشةً نفسه. ج- الاحتقار في المجتمع: إذ من وظائفِ الآمرِ بالمعروف والناهي عن المنكر أنْ يأمرَ وينهى حسب الدرجات والشرائط, وحالُ عدم الاستجابة يُبدي الانزجار واللامبالاة لمن اتصفَ بأخلاقِ أعداء الله (تعالى). د- توهين الشخصية: إذ إنّ صاحبَ الأخلاق السيئة ضعيفُ الرأي, وهنُ الشخصية؛ لبعدِه عن النهجِ القويم. 2/ بيانُ محاسنِ الأخلاق والآثار الإيجابية من التحلّي بها, وأنّها أخلاق النبي وآله (عليهم السلام). 3/ ترويضُ وتهذيبُ النفس بإشرافِ مرشدٍ يكون كالطبيب الروحي له. 4/ ضرورةُ معرفةِ أنّ طريقَ التكاملِ لا زال مفتوحًا, فبإمكان الإنسان سيء الخلق أنْ ينسلخَ بسهولةٍ من تشبهِّه بأعداء الله (تعالى), ويُصبِحُ كأحدِ أولياء الله (تعالى). ___________________ (1) الحقائق في محاسن الأخلاق: للفيض الكاشاني, ص54. (2) البقرة: 261. (3) الطلاق: 1. (4) فصلت 19. (5) فصلت: 28. (6) البقرة: 190. (7) البقرة: 229. (8) البقرة: 208. (9) البقرة: 98. (10) البقرة: 98. (11) ظ: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزّل: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي. (12) حديث مشهور. (13) الكافي: للشيخ الكليني, ج2, باب سوء الخلق, ح3. (14) المصدر نفسه, ح4. اللّهم استعملنا فيما تُحبُّ وترضى, بحقِّ محمدٍ وآله أولي الخُلُق السجي والعُلى.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 4 سنوات
429

بوارقُ التوحيدِ الجلي عند الإمام الحسين بن علي (6)

"يا مَنْ لا يَعْلَمُ مَا يَعْلَمُهُ إلاّ هُوَ" بقلم: علوية الحسيني بارقةٌ توحيديةٌ أخرى تلوحُ في سماءِ التقديس، مُسلِّطةً الضوء على جوهرِ التوحيد النفيس، وتقولُ: إنّ هناك علمًا لا يعلمُه إلا الله (تعالى)، استأثر به لنفسِه في سُرادقاتِ الغيب. نعم، إنّ هناكَ علماً يعلمُه غير الله (تعالى)، لكن ذلك لا يُنافي سعة علمه (تعالى)؛ إذ الآيات الكريمة والروايات الشريفة لا تُنكرُ السِعة، وتحميلُ الله (تعالى) للبعضِ علمَهُ لا ينفي إحاطتَه علمًا بما حمّله. ومن الدلائلِ على سِعةِ علمه (تعالى) قوله (جلَّ جلاله): {إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْما}(١) كما وجاءَ في الرواياتِ الشريفة أنْ لا مُنتهى لعلمِه (تعالى)؛ رويَ "عن الكاهلي، قال: كتبتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام) في دعاء: (الحمد لله منتهى علمه) فكتب إليَّ: لا تقولَنَّ مُنتهى علمه، ولكنْ قُلْ: منتهى رضاه"(٢) وبعدَ أنْ نبّهْنا إلى سعةِ علمِ الله (تعالى)، نتطرقُ لأقسامه. *فمن سياقِ بعضِ الآياتِ الكريمة يتضحُ لنا أنّ العلمَ علمان بلحاظِ الاختصاص والاشتراك؛ حيثُ أنّ هناكَ أمورًا لا يعلمُ بها ملكٌ مقرّب، ولا نبيٌ مرسل، بدلالةِ ظاهر الآية: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُو}(٣)، فمن الغيب تحديدُ زمنِ يومِ القيامة: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبا}(٤) ومن سياقِ بعضِ الآياتِ الأخرى يتضحُ أنّ مشاركةَ أولياءِ الله (تعالى) لربّهم في علمِه، من قبيلِ ما أخبرَ الوحيُّ به الأنبياء (عليهم السلام)، هو متمثل بالكتبِ السماوية، والأحاديثِ النبوية، وما ألهمَ اللهُ (تعالى) به الأئمةَ (عليهم السلام) متمثلًا بالجفر، ومصحف فاطمة، أو ما تناقَلَه الأئمةُ عن سيّدِهم النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بإذنٍ من الله (تعالى) متمثلًا بالحديثِ عن عللِ بعضِ الأحكام مثلًا. إلاّ أنّ كلّ ذلكَ العلم هو جزءٌ مما عندَ اللهِ (تعالى)، ومالكُ الجزءِ ليس بالضرورةِ أنْ يملكَ الكل، أمّا مالكُ الكلِّ فيملك الجزء بداهةً؛ أيّ أنَّ الله (تعالى) مالكٌ لعلمِه الغيبي، ومالكٌ للعلمِ الذي أفاضَ به على أوليائه. وهذا لا يُنافي ما جاء به الإمامُ الحسين (عليه السلام) في فقرةِ دعائه المتقدمة، بل إشارةٌ منه إلى العلم الغيبي الذي استأثر اللهُ (تعالى) به لنفسه، وعليه فينعقدُ الكلام حصرًا حوله. *كما وهناك تقسيمٌ آخر للعلمِ بلحاظِ المعلومِ به، فالمعلومُ به تارةً يكون ذاتيًا، وأخرى فعليًا، فالذاتيُّ لا يعلمُ به سوى الله الواحد الأحد، من قبيلِ علمِه بذاتِه (سبحانه)، وعلمه بالأشياء قبل إيجادها، ولا يتغيرُ أبدًا. أما الفعلي فممكنٌ أنْ يشاركَه (تعالى) أولياءه، من قبيلِ العلمِ بالأشياء بعد إيجادِها، بدليلِ أنّ الإنسانَ زارعُ البذرةِ ممكنٌ أنْ يعلمَ مستقبلَ البذرةِ، أو المرحلة الفعلية لها بعدَ أنْ كانت قوّةً. فعلمُه وإنْ كان مشوبًا بالجهلِ في أكثرِ الأحيان، إلاّ أنّه أصالةٌ نستطيعُ أنْ نقول ممكنٌ للإنسان أنْ يُشارِكَ اللهَ (تعالى) في ذلك العلم. وكلامُنا ينعقدُ حولَ العلمِ الذاتي الذي هو محلُّ شاهدنا من توضيحِ مرادِ الإمام الحسين (عليه السلام) في فقرته الدعائية. *كما وهناك تقسيمٌ آخر للعلمِ بلحاظ ِالذاتية والفعلية، جاءت به ألفاظٌ عديدة، منها صريحةٌ، ومنها مؤولةٌ. فأمّا الصريحةُ فواضحةٌ، وأمّا المُؤولةُ فهناك مفردتان انفرد أهلُ البيت (عليهم السلام) عن غيرِهم في تأويلها من ظاهر لفظها إلى العلم؛ تنزيهًا لله (تعالى)، واستنادًا على ما تلقوهُ من سيّدِ التوحيد، النبي الحميد محمد (صلى الله عليه وآله)، وهما مفردتا العرش، والكرسي. *فأمّا مفردةُ العرشِ الواردةُ في الآية {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة}(٦). وفي الآية: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء}(٧). وفي آية: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}(٨). فجميعُها مؤولةٌ بالعلم؛ استنادًا إلى ما رُويَ عن أميرِ المؤمنين وسيّدِ الموحدين علي (عليه السلام) حينما سأله الجاثليق عن عرش الرحمن، فأجابه (عليه السلام) بالقول: "إِنَّ الْعَرْشَ... وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي حَمَّلَهُ الله الْحَمَلَةَ وَذَلِكَ نُورٌ مِنْ عَظَمَتِهِ فَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ أَبْصَرَ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِين"(٩). وهكذا مفردةُ الكرسي الواردة في آية: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض}(١۰) فإنها مؤولةٌ بالعلمِ أيضًا؛ استنادًا إلى ما روي "عن حفص بن غياث، قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزّ وجل): (وسِعَ كرسيه السماوات والأرض) قال: علمه"(١١) والعلمُ الذي سيكونُ محلَّ كلامنا، والذي يقصدُه الإمامُ الحسين (عليه السلام) في قوله: " يا مَنْ لا يَعْلَم مَا يَعْلَمُهُ اِلاّ هُوَ" هو العلمُ الذي لا يعلمُه إلاّ الله( تعالى)، وأحد مصاديقه هو الكرسي، لتصريح بعضِ الرواياتِ بأنّ الكرسي هو العلمُ الذي لم يُطلِعِ الله (تعالى) عليه أحدٌ من أوليائه؛ رويَ "عن المُفضّلِ بن عمر قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن العرشِ والكرسي ما هما؟ فقال: العرشُ في وجهٍ هو جملةُ الخلقِ والكرسي وعاؤه، وفي وجهٍ آخر العرشُ هو العلمُ الذي أطلعَ اللهُ عليه أنبياءه ورسلَه وحججه، والكرسي هو العلم الذي لم يُطلع [الله تعالى] عليه أحدًا من أنبيائه ورسوله و حججِه (عليهم السلام)"(١٢) وقد صرحت بعضِ الروايات التي جاءت لتقِسيمُ العلم، وأشارت إلى محلِّ وقوعِ البداء بأنّ هناك علمًا يستأثرُ اللهُ (تعالى) به لنفسه، فلا يعلمُ به إلاّ هوَ، وهذا ما يقصدُه الإمامُ الحسين (عليه السلام)؛ "عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلام) يَقُولُ الْعِلْمُ عِلْمَانِ، فَعِلْمٌ عِنْدَ الله مَخْزُونٌ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ, وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ مَلائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ فَمَا عَلَّمَهُ مَلائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لا يُكَذِّبُ نَفْسَهُ وَلا مَلائِكَتَهُ وَلا رُسُلَهُ وَعِلْمٌ عِنْدَهُ مَخْزُونٌ يُقَدِّمُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاء"(١٣) وقد أطلقت بعضُ الروايات على العلمِ الذي لا يعلمُه إلا الله (تعالى) بالعلم الخاص، في قبالِ العلمِ العام، ومن خلالها يتضحُ مُرادُ الإمامِ الحسين (عليه السلام) بأنّه هو العلمُ الذي لا يعلمُه ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ هو علمُه الخاص الذي لا يعلمُه إلاّ هو؛ روي "عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: إنَّ لله (تعالى) علمًا خاصًا، وعلمًا عامًا، فأما العلمُ الخاصُ فالعلمُ الذي لم يُطلِع عليه ملائكته المقربين وأنبياءه المرسلين، وأما علمُه العامُ فإنّه علمُه الذي أطلع عليه ملائكته المقربين وأنبياءه المرسلين، وقد وقعَ إلينا من رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)"(١٤) والخلاصةُ: مهما كان عند الإنسان من علوم، فهي متناهية بالقياس إلى علم الله تعالى، وبالتالي، فإن العلم اللامتناهي مختص به جل وعلا، وقد ذكرنا بعض مصاديقه حسب ما وردت به الروايات الشريفة. _____________ (1) طه: 98. (2) التوحيد: للشيخ الصدوق, ب10, ح2. (3) الأنعام: 59. (4) الأحزاب: 63. (5) الاسراء: 85. (6) الحاقة: 17. (7) هود: 7. (8) طه: 5. (9) الكافي: للشيخ الكليني, ج1, ب42, ح1. (10) البقرة: 255. (11) التوحيد: للشيخ الصدوق, ب52, ح1. (12) معاني الأخبار: للشيخ الصدوق, باب معنى العرش والكرسي, ص29, ح1. (13) الكافي, ج1, ب46, ح6. اللّهم إنّي أسألك من علمك بأنفذه، وكلّ علمك نافذ، اللّهم إنّي أسألُكَ بعلمك كلّه.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 4 سنوات
519

نفحاتٌ ملكوتية من الخطاب الزينبي (٦)

بقلم: علوية الحسيني "ولئن اتّخَذْتَنا مَغْنَماً، لَتجِدَنا وشيكاً مَغْرَماً، حين لا تجدُ إلاّ ما قدَّمْتَ وما ربُّكَ بظَلاّمٍ للعبيد" في هذا المقطع إشارة واضحة إلى اسلوب الترهيب، المتخذ كأسلوب خطابي تربوي مع الطغاة الظالمين، وإلى قبح الظلم، وإلى العدل الإلهي بكيفية الانتصار للمظلوم على الظالم، ببيانٍ جزل، مؤكد بعضه بعضًا، وهذا ما سيتم بيانه ضمن النواحي الثلاث التالية: ■الناحية الأولى: الناحية العقائدية المقطع صريح في بيان العدل الإلهي، وبالملازمة نفي الظلم عنه، فمن عدل الله تعالى أن يثيب المحسن ويعاقب العاصي. لكن هنا أمرين مهمين لابد من الالتفات إليهما بدقة: ١- لا نستطيع حصر تحقق العدل الالهي في الآخرة دون الدنيا؛ إذ كم من محسنٍ أفاض الله تعالى عليه من نعمه في الدنيا كجزاء لطاعته لربّه، وكم من عاصٍ عاقبه الله تعالى بسطوة عقابه في الدنيا كجزاء لمعصيته لربّه. ٢- كما لا نستطيع حصر تحقق العدل الالهي في الدنيا دون الآخرة؛ إذ كم من محسنٍ ابتلاه الله تعالى بفجيع الابتلاءات رفعًا لمنزلته، وكم من عاصٍ غمره الله تعالى بوافر نعمه إمهالاً له. وإلى الأمرين أشارت السيدة زينب (عليها السلام)؛ فالمغرمة أي: الغرامة قد يدفعها العاصي -الذي هو الطاغية يزيد- في الدنيا، كما حصل له لما أصابه من الذل رغم كونه حاكمًا، ومعاداة المؤمنين له، قال تعالى متوعدًا الظالمين: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِين} (1). وفي الآخرة فسيدفع الغرامة حتمًا، وهي خضوعه للسطوة الإلهية بالعذاب العظيم، على سُنّة {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُه}(2)، هذا على فرض قصد السيّدة (عليها السلام): "لتجدنَّ مغرما" حسب ما هو عليه في بعض النسخ. وعقيدتنا في عدل الله تعالى: "إن الله جل جلاله عدل كريم لا يعذب أحدا إلاّ على ذنب اكتسبه أو جرم اجترمه أو قبيح نهاه عنه فارتكبه" (3). أمّا النسخ الأخرى فورد أنّها قالت "لتجدنا مغرما" فمنطوق الجملة يشير إلى كون آل الإمام الحسين (عليهم السلام) هم الذين يغرِّمون الطاغية (عليه لعنة الله) في ساحة المحكمة الإلهية، حيث سبق وأن قالت له "وَ حَسْبُكَ بِاللَّهِ وَلِيّاً وَحَاكِماً وَبِرَسُولِ اللَّهِ خَصِيماً وَبِجَبْرَئِيلَ ظَهِيرا"، فتقام الدعوى، والحاكم فيها الله تعالى والمجني عليه فيها حبيب الله محمد (صلى الله عليه وآله)؛ إذ لم يرع القوم بعده إلاًّ ولا ذمة في آل محمد (عليه وعليهم السلام) منذ يوم السقيفة إلى يوم الطف ولازال مستمرا، وجبرائيل فيها مؤيّد وشاهد. وعليه، سيكون الحكم الإلهي هو تنفيذ قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعا} (4). بهذا التمثيل أعطت السيّدة زينب (عليها السلام) بالمنطوق درسًا عقائديًا في عدالة الله الواحد الأحد، تبيّن فيها كفر الطاغية يزيد وضلاله وظلمه بالمفهوم؛ حيث إنّ الظالم متعدٍ عن حدود الله تعالى. ■الناحية الثانية: الناحية الأخلاقية إنّ كلّ من يتصف بغير أخلاق الدّين المحمدي فهو جاهلي، والظلم خلق بعيد عما يدعو إليه الإسلام، والطاغية يزيد (عليه لعنة الله) هكذا، فبظلمه للإمام الحسين وآله (عليهم السلام) يكون من كبار الظالمين، وحيث إنّ السيّدة زينب (عليها السلام) قالت في هذا الآن: "ولئن اتّخَذْتَنا مَغْنَماً، لَتجِدَنّا وشيكاً مَغْرما"، فباتخاذ الطاغية لآل الإمام الحسين (عليه السلام) كغنائم حربٍ يدلّ على أنّه ظالم، والظالم لا أخلاق له؛ حيث إنّه تعامل مع آل الإمام الحسين (عليه السلام) كتعامله مع الغنائم، فغنائم الحرب هي تلك الأشياء التي تؤخذ من جيش العدو، أمّا الطاغية يزيد فاعتبر آل الإمام الحسين (عليهم السلام) غنائم حربٍ، وإلاّ لا سلطان له عليهم بعد أن أمر جيشه بقتل الإمام الحسين (عليه السلام). لكن الأخلاق القبيحة تفرعت عن أصله الذي ربّاه ونصبه للخلافة، كيف لا، وهو فرع الشجرة الملعونة التي أشار إليها الله تعالى في كتابه الكريم بقوله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَار} (5)، بل كيف لا يكون خبيث الخلق وقد تفوّه بصريح العبارة بانتقامه من آل النبي (عليه وعليهم السلام) حينما قال: "ليتَ أشياخي ببـدرٍ شَهِـدوا *** جَزَعَ الخزرجِ مِن وَقْعِ الأسَلْ فأهَلَّـوا واستَهـلُّـوا فَرَحـاً *** ثمّ قالـوا: يا يزيـدُ لا تُشَلّْ! لستُ مِن خِنْدَفَ إنْ لم أنتقـمْ *** مِن بني أحمدَ ما كان فَعَـلْ". وبهذا يتضح أنّ فطرة الطاغية يزيد (عليه لعنة الله) ملوثة بالأصل، ولم يتخلق بخصلةٍ من خصال المسلم العادي، فعلى الإسلام السلام إذا كان حاكمه -إن كان حاكمًا- بهذا الخلق القبيح. ولهذا روى آل محمد عن جدّهم (عليهم السلام) أحاديث كثيرة في الظلم، ولعلّهم تذكروا كلّ ظالمٍ لمحمدٍ وآله، حينما قالوا مرويًا عنهم: "قَالَ رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه) اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّهُ ظُلُمَاتُ يَوْمِ الْقِيَامَة" (6). بل وأشاروا (عليهم السلام) إلى هول عاقبة من يتصدى لإيذاء أولياء الله تعالى، وحتمًا يزيد منهم، حيث روي عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام) إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ الصُّدُودُ لأوْلِيَائِي فَيَقُومُ قَوْمٌ لَيْسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ لَحْمٌ فَيُقَالُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ آذَوُا الْمُؤْمِنِينَ وَنَصَبُوا لَهُمْ وَعَانَدُوهُمْ وَعَنَّفُوهُمْ فِي دِينِهِمْ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّم" (7). فإذًا كانت جهنم مصير كل ظالم تعدّى على أولياء الله تعالى، فما بالنا بمصير من تعدّى على صفوة الله تعالى؟! ■الناحية الثالثة: الناحية البلاغية الأسلوب الملحوظ في هذا المقطع هو التوكيد، والقصر. فأما التوكيد ففي كلمة "لتجدَنَّ -حسب بعض النسخ-"، حيث أكدت السيدة زينب (عليها السلام) ايجاد الطاغية لعقابه بنون التوكيد الثقيلة، هذا فضلاً عن شدة الإيمان في العدل الالهي، فهو أسلوب بلاغي يستعمل لتأكيد المعنى. وأما أسلوب القصر فتجسد في قولها (عليها السلام): "لا تجد إلاّ ما قدّمتَ" فبدلاً من أن تقول الجملة مجردة: (تجد ما قدمت) قالتها مع أداتي النفي والاستثناء، وهذا القصر هو "قصرٌ حقيقي يختص فيه المقصور بالمقصور عليه ولا يتعدى غيره في الواقع" (8)، أي إنّه لن يجد إلّا أعماله. _______________ (1) البقرة: 193. (2) الكهف: 87. (3) أوائل المقالات: للشيخ المفيد، ص61. (4) البقرة: 165. (5) ابراهيم: 26. (6) الكافي: للشيخ الكليني، ج2، باب الظلم، ح10. (7) المصدر نفسه، باب من آذى المسلمين واحتقرهم، ح2. (8) ظ: البلاغة الواضحة: لعلي المصطفى ومصطفى أمين، ص219. وسلامٌ على الحوراءِ ما بقيَ الدهرُ وما أشرقتْ شمسٌ وما طلعَ البدرُ سلامٌ عـلى القلبِ الكبيرِ وصبرِهِ بما قدْ جرتْ حزنًا لهُ الأدمعُ الحمرُ

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 5 سنوات
1337

نفحاتٌ ملكوتية من الخطاب الزينبي (٥)

بقلم: علوية الحسيني "فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَ اللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها" أوامر حرفية مكتسية برزانة وقوة شخصية، ألقتها سيّدة جليلة على أرذل المخلوقات فعلاً، في مجلسٍ ضمّ الشريف والوضيع، والقاصي والداني، جاعلاً المظلوم ظالمًا، والظالم مظلومًا، فانبرت السيدة زينب (عليها السلام) للطاغية يزيد (عليه لعنة الله) صاحب ذلك المجلس، وبعد خطابٍ طويل مصدرةً تلك الأوامر المقترنة بالترهيب. والأوامر هي أن يكيد الطاغية كيده، ويستمر بسعيه في نصب العداء لآل محمد (عليهم السلام)، وأن يجتهد ويكد في بذل جهده في التوهين بمقامهم (عليهم السلام)، أوامر لها ابعاد أخلاقية وعقائدية وبلاغية، وكعادة خطابها، وهذا ما سنشير إليه في النواحي التالية: ■الناحية الأولى: الناحية الأخلاقية. إنّ المتتبع للسياق الخطابي لكلام السيّدة زينب (عليها السلام) يجده مكتسيًا بالأخلاق الفاضلة رغم بلاغة الكلمات، وصمود الشخصية، وفي هذا المقطع أمرت السيّدة زينب (عليها السلام) الطاغية بأن يكيد كيده مهما كان ذلك الكيد، ويستمر ببذل سعيه وجهده في نصب العداء للعترة المحمدية (عليهم السلام)؛ لأنّها سمعت تهديدًا من الطاغية يزيد (عليه لعنة الله) بأنّ سيكيد لهم كيدًا لم يسمع به أحدًا؛ وما تهديده إلاّ لجبنه وسفاهته، فروي أنّ الطاغية استثار غضبًا من بلاغة خطاب ابنة أمير المؤمنين، مستأصل أصل شجرته الخبيثة (عليه السلام)، حيث قال مهددًا: "اقسم لألحقنَّكَ بأخيكِ" بعد أن أخبرته السيّدة أنّ أمثالها لا يكلّم أمثاله، إلاّ أنّ الدهر جار عليها، وأراها ما أراها من مكائد الظالمين، وأنّها تستصغره وتستحقره، وهذا خطابٌ أخلاقيٌ طبيعي يصدر من مخدّرةٍ تجاه من أمر بوقوفها في مجالس أشباه الرجال أمثال الطاغية وشرذمته (عليهم لعنة الله). فهذا الخلق يسمى بالشجاعة الموسومة بالأدب – لا بالوقاحة-. ونجد قبال شجاعة وحكمة السيّدة (عليها السلام) جبن وسفاهة الطاغية (لعنه الله)؛ حيث كانت ردّة فعله أنّه أقسم بأن يقتل امرأة! ومما يدل على سفاهة رأيه هو اشارة أحد جلاوزته عليه بأنّه لو تم قتل امرأة سبية ستثور عليه المدينة، فأخذ الطاغية بالمشورة، وقال: "سحقًا لها –للسيّدة-، والله لأكيدنّ لهم كيدًا ما كاده سلطان برعيّة"، وحيث الجبن أسّه وأساسه كأسلافه أخذ يقسم بين جملةٍ وأخرى، وكأنّه يعلم بأنّه كاذب. وهنا، وحيث إنّ السيّدة (عليها السلام) لم تستبعد ما يقوله الطاغية الخائن لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله)، احتملت أن ينفّذ الطاغية كيدًا لسليلات الرسالة (عليهن السلام)، وهذا ظنّها بشارب الخمر، هاتك الستر، منبع الفسق والشر، يزيد (عليه لعنة الله)، لهذا اكتفت بالرد عليه بشجاعةٍ ورزانة، مصححة له وللملأ أنّ آل الحسين (عليهم السلام) ليسوا رعيّة لأحد، بل الناس جميعهم رعيّة عند العترة المحمدية؛ بلحاظ حجّيتهم (عليهم السلام) على المسلمين. وعقّبتْ (عليها السلام) قائلة: "فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَ اللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها... إلى أن قالت: يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين"، فحار الطاغية جوابًا (عليه لعنة الله)، وطلب مترجيًا -حسب ظاهر حاله- أن يسكتوها، فطلب الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) من عمته السكوت، مثنيًا على خطابها. فهكذا كانت أخلاق السيّدة (عليها السلام) مع العدو الظالم، شجاعةٌ، وبسالة، وصمود، وشموخ، وحياء، ورزانة، وقوّة، وعدم خضوع. ■الناحية الثانية: الناحية العقائدية. بعد أن أعطت السيّدة زينب (عليها السلام) درسًا في الأخلاق لجميع الحضور من خلال هذا المقطع الخطابي، أعقبته بدرسٍ آخر في العقيدة؛ فكأنّها (عليها السلام) تريد أن تعلل سبب أمرها للطاغية بأن يكيد ويسعى وينصب جهده في العداء لآل الحسين (عليه وعليهم السلام)، حتى كان تعليلها عبارة عن منظومة معرفية في اصول الدّين جميعها -التوحيد، العدل الإلهي، النبوة، الإمامة، والمعاد- حينما أقسمت بالله تعالى وقالت له: "فوَ اللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها". * فجسّد جوابها إيمانًا بالتوحيد؛ حينما قالت: "لا تَمَحُو ذِكْرَنا" وفي بعض النسخ (لن تمحو ذكرنا)، فالجملتان تفيدان نفي (محو الذكر)، وذلك الجزم بالنفي صادر عن عقيدة راسخة في قدرة الله تعالى بحفظهم، وحيث إنّ الإيمان بصفات الله هو فرع الإيمان بأحديته وواحديته تعالى، فذلك هو الإيمان بالتوحيد. وقباله نجد كفر الطاغية يزيد (عليه لعنة الله) بالتوحيد؛ حينما يقسم أنّه يستطيع أن يقتل من يشاء دون أن يرهن الأمر بقدرة ومشيئة الله الواحد القهّار. *كما وجسّد جوابها إيمانًا بالعدل الإلهي، حينما قالت: " لا تَمَحُو ذِكْرَنا" إشارةً منها أنّ من عدل الله تعالى أن يديم ذكر مَن حافظ على شريعة ربّه من الانطماس، حينما حاول الطاغية، شارب الخمر أن يغيّر عقيدة الناس في الله تعالى بعد أن حاول اقناعهم أنّ الله تعالى يجبرنا على فعل المعاصي، فضلاً عن هتكه لحرمة بيت الله الحرام؛ "فبزمن الطاغية (عليه لعنة الله) أبيحت المدينة المنورة، وبطلت الجماعة من المسجد النبوي أيام، وأخيف أهل المدينة أياما، فلم يمكن لأحد أن يدخل المسجد حتى دخلتها الكلاب (والذئاب) وبالت على منبر النبي (صلى الله عليه وآله)"، فبثورة الإمام الحسين (عليه السلام) عرف الناس الحق من الباطل، ولهذا قال (عليه السلام): "لم أخرج اشرًا ولا بطرًا، وإنّما خرجت للإصلاح في امّة جدّي". *كما وجسّد جوابها إيمانًا بالنبوة؛ حينما قالت: "ولا تُميت وحيَنا" إشارةً منها إلى الإيمان بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) معصوم في جميع أحواله، ومنها في تلقيه الوحي، فحينما أخبره الوحي أنّ الله تعالى يأمره بأن يأمر شيعته بالتمسك بما يدعو إليه نبيّه قولاً وفعلاً، آمنت بقوله (صلى الله عليه وآله) بجعل حبّ الحسين هو حبّ النبي (عليهما السلام)، وذلك الجعل صادر من الوحي، وبالتالي بقي كلام الوحي حيًّا، وحبّ الحسين (عليه السلام) دائمًا، وهذا هو الإيمان بالنبوة. وبها قد كفر الطاغية (عليه لعنة الله)، رغم رواية كتبه بذلك؛ "عن يعلي بن مرة، قال: كنا مع رسول الله (ص[صلى الله عليه وآله وسلم])، فدعينا إلى طعام، فإذا الحسين (ر) يلعب في الطريق، فأسرع النبي (ص[صلى الله عليه وآله وسلم]) أمام القوم،... ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلمٍ]): حسين مني وأنا منه، أحب الله من أحبه" (2). *كما وجسّد جوابها إيمانًا بالإمامة؛ بقولها: "ولا تُدرِكُ أمَدَنا" إشارةً منها إلى استمرار نسل الإمامة وإن كاد المكائد، ونصب الجهد لآل الحسين (عليهم السلام)؛ حيث شاءت ارادة الله تعالى إبقاء الإمام علي السجاد، ومحمد الباقر (عليهما السلام) ليدوم نسل الأئمة المعصومين المنصوص على أسمائهم. وإيمانها ذلك منبعث من رسوخ عقيدتها في حجّية قول الائمة المعصومين (عليهم السلام)، ومن أقوالهم أنّهم كانوا ينص السابق منهم على امامة اللاحق، فلو أنّ الطاغية (عليه لعنة الله) أراد إبادة آل الحسين (عليهم السلام) لكان كلام الأئمة في التنصيص على أسماء الأئمة لغوًا، والحال أنّ الأئمة (عليهم السلام) معصومون من اللغو، وبهذا الحال آمنت. *وجسّد جوابها إيمانًا بالمعاد؛ بقولها: "ولا تَرحضُ عنك عارها" إشارةً منها إلى يوم القيامة، تعالى حيث يثيب الله المطيعين، ويعاقب العاصين الظالمين، ولهذا نجدها ختمت قولها بعد هذا المقطع بالآية الكريمة: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِين} (4)، ولا ينادي المنادي إلاّ في يوم الحساب؛ حيث تنادي ملائكة العذاب بطرد الظالمين من رحمة الله تعالى، ومنهم الطاغية يزيد (عليه لعنة الله). ■الناحية الثالثة: الناحية البلاغية. المقطع من حيث البلاغة حوى أساليب بلاغية، منها الوصل والإيجاز والاطناب (5). أما الوصل الذي هو عطف جملة على اخرى بالواو، فقد أوصلت السيّدة (عليها السلام) في قولها: " فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك" فعطفت نصب الجهد على السعي، والسعي على الكيد، عطفًا بين جملٍ إنشائية على بعضها؛ لمناسبةٍ بينهما في افادتهما معنىً واحدًا، ولإرادة المتكلمة لها. وأما الايجاز، فقد أوجزت السيّدة في هذا المقطع إيجاز قصرٍ، فكانت ألفاظها قليلة إلاّ أنّ معانيها متكثرة؛ حيث قالت: " فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك"، فكل جملة من هذه الجمل تفيد معانٍ كثيرة أوجزت في تلك الألفاظ؛ والغرض من ذلك هو حزنها (عليها السلام)؛ وإلاّ فماذا نتوقع أن يصدر من امرأة متفجّعة كالسيّدة زينب (عليها السلام) بعد أن سمعت الطاغية يهدد بإبادة النسل المحمدي؟! وأما الإطناب الذي هو الزيادة في الألفاظ المحققة لفائدة، فتجلى في قولها (عليها السلام): "فوَ اللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها"، إذ كانت تستطيع أن تقول واحدة من تلك الجمل، إلاّ أنّها (عليها السلام) أرادت تثبيت المعنى في ذهن السامعين وإثارة حميتهم، بالإضافة إلى إرادتها دفع الإيهام الذي حصل عند السامعين الحاضرين في المجلس بسبب قول الطاغية (لعنه الله) بقدرته على ابادة آل الحسين (عليهم السلام)، ولهذا أطنبت في القول موضحة كذب وفسق الطاغية. ____________________ (1) ينابيع المودة: للقندوزي، ج3، ص35. (2) المعجم الكبير: للطبراني، ج3، ص32. (4) هود: 18. (5) ظ: التحفة الباهرة في بلاغة المخدرة الطاهرة: للشيخ حسين البحراني. و لَئن نسيتُ فلَسـتُ أنسى زينبـاً *** ودوام مِحنتهـا وطـول عنـائهـا.. حَمَلت مِن الأرزاء ما أ عيا الورى *** حَمـلَ اليسير النَزر مِـن أعبائهـا.. سُبيَت، و أعظم ما شَجاني غَيرةً *** ـ يا غيرة الإسلام ـ سَلبُ رِدائها.. و وقوفهـا فـي مجلـسٍ جُلاسُه *** أهوى بهـا الشيطـان في أهوائها..

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 5 سنوات
8104

حوارٌ مبين في زيارة الأمين (١٠)

بقلم: علوية الحسيني/ ودعاء الربيعي "مستنةً بسنّة أوليائكَ" محور حديثنا لهذه الحلقة هو الاستنان بسنن الأولياء، ونذكر بيانه ضمن الأسئلة التالية: ■السؤال الأول: ما المقصود بالسنة في قول الإمام المعصوم؟ هل هو اتباع اقوال وأفعال أولياء الله، أو المراد من الاستنان بسنة الأولياء أمر آخر؟ ج/المراد بالسنة: هي أحد مصادر التشريع الإسلامي، وتأتي مع القرآن الكريم، ويليها الإجماع، ثم العقل. أي إنّ الأحكام التشريعية بأقسامها الخمسة (الوجوب، الاستحباب، الحرمة، الكراهة، المباح) يستخرجها الفقيه من القرآن الكريم، ومن السنة النبوية؛ فقول أو فعل النبي وأهل بيته (عليهم السلام)، أو سكوتهم عن واقعةٍ ما، تفيد حكًا شرعيًا. ولا يمكن الفصل بين السنة والقرآن الكريم، والاكتفاء بالقرآن دونها، فمثلاً لو وجدنا في القرآن الكريم آية كريمة تنص على وجوب الصلاة (وأقيموا الصلاة)، فهنا يجب الرجوع إلى السنة النبوية لتفسِّر لنا أحكام الصلاة، من حيث عدد الركعات، انتظام الأوقات، علاج الأخطاء، وكل ما يتعلّق بالصلاة. فنحن نعلم إنّ للقرآن باطناً وظاهراً، ولا يعلم باطن القرآن الكريم إلاّ أهل السنّة النبوية، محمد وآل محمد (عليهم السلام)، فيجب الرجوع إليهم، والاستنان بسنتهم؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُول} (1). أولوا الأمر -آل محمد (عليهم السلام)- يستمدون السنن النبوية من الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)؛ بلحاظ كونهم الخلفاء بعد رسول الله، ولهذا وصف النبي (صلى الله عليه وآله) اولي الأمر، أهل البيت (عليهم السلام) بالثقل الأصغر، في حديث الثقلين: "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض" (2). إذًا فالسنّة هي الدليل الشرعي الصادر من المعصوم -النبي والأئمة (عليهم السلام)- الذي تكون له دلالة شرعية على الحكم الشرعي، من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ صادر منهم (عليهم السلام). ومن هنا أصبحت لدينا سنّة قولية، وسنّة فعلية، وسنّة امضائية أو سكوتية. نأخذ مثالاً على كلٍ من تلك الأقسام: 1/ السنة القولية: مثل قول النبي محمد (صلى الله عليه وآله) إذا أوى إلى فراشه: "اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت، وإذا قام من نومه قال: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور"، فقوله هذا يدل على حكم راجح، ومن يقتفي أثر نبيّه ويعمل بسنته يسمى مستنًا بسنة النبي (صلى الله عليه وآله). 2/ السنة الفعلية: مثل سجود النبي (صلى الله عليه وآله) عند استيقاظه من نومه، فيخرّ لله تعالى ساجدًا، والسجود فعل، فمن يفعل كما فعل نبيّه يسمى مستنًا بسنة النبي (صلى الله عليه وآله). 3/ السنة الامضائية: كما لو طلب رجل من النبي أو الإمام (عليه السلام) أن يرى صلاته هل يشوبها خطأ ما أو لا، فيصلي الرجل وينتهي، فيسكت المعصوم، فسكوته دلالة على امضاء وصحة صلاة الرجل، ودلّت صلاة الرجل على موافقتها لسنة المعصوم في الصلاة، بشرط أن لا يكون عن تقية. السنن متعددة –كسنن الأنبياء-، إلاّ أنّ خير السنن هي سنّة النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)؛ يقول تعالى على لسان نبيّه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} (3)، والاتِّباع منه الاستنان. وخاتمة السنن هي سنّة النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)؛ بدلالة ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول عند وفاته: لا نبي بعدي ولا سنة بعد سنتي" (4). ■السؤال الثاني: كيف يمكن للفرد أن يكون مستناً بسنن أولياء الله تعالى، هل هناك امور تساعد في ذلك؟ ج/نعم، وذلك من خلال اتباع ما جاء في كتاب الله تعالى، والسنة النبوية نفسها، وحديث الثقلين كافٍ لبيان كيفية الاستنان، "إنّي تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي" فالنبي (صلى الله عليه وآله) يضمن لنا عدم الضلال إذا تمسكنا بالثقلين، كتاب الله تعالى، والعترة الطاهرة (عليهم السلام). ولا يخفى عليكم أنّ عقولنا قاصرة عن فهم الروايات الصادرة عن محمد وآل محمد (عليهم السلام) مما اقتضى دراسة سنوات عديدة، ولعلوم مختلفة، منها النحو، الفقه، الأصول، المنطق، الرجال، الدراية، العقائد، من أجل الاقتراب من فهمها بصورتها الصحيحة. *فالروايات منها التي يعود الضمير فيها إلى شيء وأخرى فاعلها محذوف، وهكذا، وهذا يتطلب معرفة دقيقة في علم النحو. *ومن الروايات ما تدل على الوجوب واخرى على الاستحباب مثلاً، وهذا يتطلب معرفة في علم الفقه. *ومن الروايات عامة وأخرى خاصة مثلاً فيقدّم الخاص على العام، وهذا يتطلب معرفة في علم الأصول. *ومن الروايات ما تشكل قياسًا منطقيًا يفيد في الاستدلال على اثبات أمر ما، وهذا يتطلب معرفة في علم المنطق. * ومن الروايات صحيحة السند واخرى ضعيفة مثلاً، وهذا يتطلب معرفة في علم الرجال والدراية بمعرفة الرواة ووثاقتهم، ومتن حديثهم المنقول ومدى موافقته للقرآن الكريم. * ومن الروايات ما تدل على الاعتقاد بالتوحيد وأخرى تدل على الاعتقاد بالعدل الإلهي مثلاً، وللتفرقة بينهما لابد من معرفة بعلم العقيدة. وبالتالي فإنّ وظيفتنا نحن كمكلفين أحد أمور ثلاثة: 1/ الاجتهاد: وذلك بأن أتولى دراسة تلك العلوم، على مدى سنوات عديدة، وأجتهد في فهم النصوص فأستخرج السنة النبوية لنفسي وأعمل بها. ويبدو أنّ دراسة هذه العلوم ولسنوات عديدة، مع استيعابها وفهمها بدقةٍ عالية لهو أمرٌ يصعب على الغالب. 2/ الاحتياط: وذلك بأن أعمل وفق فتاوى جميع المراجع الذين هم في شبهة الأعلمية وأجمع بينها، بما أتيقن معه بفراغ الذمة. ويبدو أنّ هذا أمرٌ صعبٌ للغاية، حيث قد يلزم على المكلف أن يأتي بالعمل مرتين، وهذا ما لا يتحمله إلاّ قلّة من الناس، وغيرها من صور الصعوبة. 3/ التقليد: وذلك برجوعي أنا الجاهل في تلك العلوم إلى العالِم بها، وأخذي السنة النبوية منه التي بعلومه فهمها ونقلها لمقلّديه. وهذا هو المتيسر والأهون وظيفةً مما سبق من الاجتهاد والاحتياط. لذا نجد أنّ الواسطة اليوم التي تنقل لنا السنّة النبوية من مصادرها الموثوقة، هي المرجعية الدينية، فيكون نفس العمل بالرسالة العملية للمرجع هو استنانٌ بالسنة النبوية واقعًا أو ظاهرًا. ■السؤال الثالث: ماهي الآثار الايجابية التي يحصل عليها الفرد بشكل خاص والمجتمع بشكل عام عندما يستن أفراده بسنن أولياء الله وعباده الصالحين؟ وهل هناك آثار سلبية تحصل نتيجة لترك الاستنان بسنن الاولياء؟ ج/ أما الآثار الإيجابية، فعديدة، منها: أ) بشكلٍ خاص أو فردي: 1/ القرب من رضا الرحمن، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): أقرب ما يكون العبد من ربه إذا دعا ربه وهو ساجد" (5)، والدعاء من سجود من السنن المستحبة. 2/ حب الله تعالى له: فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل: ما تقرب إلي عبد بشيء أحبّ إلي مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته" (6)، وأداء النوافل من السنن. ب) بشكلٍ عام، أو اجتماعي: 1/ دفع المضار، فإن جميع سنن النبي وآله (عليهم السلام) تعود نفعًا على من يستن بها، كسنة غسل اليدين قبل تناول الطعام، فهي تدفع الاصابة بأمراض نتيجة انتقال الميكروبات إلى الطعام. 2/ زيادة الخشوع في أداء الواجبات من العبادات؛ فمثلاً من السنن المستحبة صلاة الليل، فأداؤها يكون مقدمة لزيادة الخشوع في الصلاة الواجبة -الفجر-. 3/ إشاعة روح الإنسانية التي تبتغي الكمال الذي خلقنا الله تعالى له، وهو السمو في العبادة، والارتقاء بها سلوكًا إلى رضوانه. •وأما الآثار السلبية، فعديدة أيضًا، منها: 1/ قلة الحسنات 2/ انطماس التاريخ 3/ الحزن والندم في دار الآخرة 4/ الأضرار النفسية 5/ مطية التعب ■السؤال الرابع : ماهي مظاهر تجلي الاستنان بسنن أولياء الله عند علمائنا الأعلام؟ ج/ لقد عمل علماؤنا بسننٍ عديدة، منها مداراة الناس، وحيث أنّهم وعلى رأسهم مراجعنا العظام لهم الدور الأبوي الناصح الرؤوف في مداراة عباد الله تعالى؛ استنانًا بما روي "عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه): أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ" (7). ومنها أداء النوافل، فهذا العلامة الطباطبائي (قدّس سرّه) صاحب كتاب تفسير الميزان، كان يصلي النافلة مشيًا أثناء ذهابه إلى مدرسته، حتى ينقل أنّ بعض أقاربه سلّم عليه ماشيًا، وكان العلاّمة منشغلاً بأداء النافلة، فإنّه فقط ردّ (عليه السلام) فانزعج ذلك الرجل من عدم سؤال العلامة له عن أحوال عياله، وبعد ذلك علم الرجل أنّ العلاّمة كان مشغولاً بأداء نافلة. __________________ (1) النساء: 59. (2) حديث متواتر في كتب الفريقين. (3) آل عمران: 31. (4) أمالي الشيخ المفيد: ص53. (5) الكافي: 3/ 323 / 7،6 / 269 /4. (6) المصدر نفسه: 2/ 352 / 8،7. (7) المصدر نفسه: 2/ 4. اللّهمَّ صلَّ عَلَى أَبِي الْأَئِمَّةِ، وَسِراجِ الْاُمَّةِ، وَكاشِفِ الْغُمَّةِ، وَمُحْيِ السُّنَّةِ، وَوَلِيِّ النِّعْمَة، أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِب.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 4 سنوات
703

حوارٌ مبين في زيارة الأمين (٩)

بقلم: علوية الحسيني/ ودعاء الربيعي "متزودةً التقوى ليوم جزائك" روي عن نبي الله محمد (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقوى". وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: ما نقل الله عز وجل عبدًا من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه من غير مال، وأعزه من غير عشيرة، وآنسه من غير بشر". كالعادة، نتحدث في هذه الفقرة ضمن عدة اسئلة: ■السؤال الأول: ما هو مفهوم التقوى؟ وكيف السبيل الى التزود بهذا الزاد العظيم الذي ذكره كتاب الله المبارك في قوله تعالى: {تزودوا فأن خير الزاد التقوى}؟ ج/ التقوى لغةً: "الخشيةُ والخوف. وتَقَوى اللهِ: خشيتُه وامتثالُ أوامره واجتنابُ نواهيه" (1). اصطلاحًا: هي تطبيق شريعة الله تعالى، بعمل الواجبات، واجتناب المحرمات، ووضع النفس في موضع يرضى الله تعالى به، وابتعادها عمّا لا يرضى به؛ استنادًا إلى ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "أن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك" (2). والتزوّد لغةً: "اِتَّخَذَ زَاداً. (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة 179]: تَزَوَّدَ بِكُلِّ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ لِرِحْلَتِهِ الطَّوِيلَةِ" (3). *أما طرق التزوّد بالزاد لغرض اكتساب التقوى، فممكن أن يكون ذلك من خلال ما طلبه الإمام زين العابدين في زيارته هذه لجدّه (عليهما السلام)، وتحديدًا في أوائل دعائه لنفسه بعد السلام على جدّه الإمام الهمام (عليه السلام)، فيتمثل لنا طريق التزود للتقوى بما يلي: 1/ الاطمئنان بقدر الله تعالى، وذلك 2/ الرضا بقضاء الله تعالى. 3/ الولع بذكر الله تعالى ودعائه. 4/ المحبة لصفوة أولياء الله تعالى. 5/ المحبوبية عند الخلق بالخلق الحسن. 6/ الصبر على نزول البلاء. 7/ الشكر لفواضل نعماء الله تعالى. 8/ الذكر لسوابغ آلاء الله تعالى. 9/ الاشتياق إلى فرحة لقاء الله تعالى. إذًا فجميع تلك الطرق هي تقوى، كلٌ منها ملحوظة بلحاظٍ مختلف عن الآخر من ناحية. وبديهي أنّ تلك الطرق لا تتم إلاّ في دار الدنيا التي هي دار ممر إلى الآخرة، فيتزود العبد إلى آخرته، تقريبًا كمن يذهب إلى السوق ويتسوق ما يحتاجه للبيت. ■السؤال الثاني: يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} فكيف يكون الله سبحانه وتعالى متقيًا؟ ج/ صدق الله العلي العظيم، جاء في تفسير هذه معنى كون الله تعالى أهل التقوى أنّه تعالى "أهل لأن يُتَّقى منه لأن له الولاية المطلقة على كل شيء، وبيده سعادة الإنسان وشقاوته، وأهل لأن يغفر لمن اتقاه لأنه غفور رحيم" (4)، إذًا فالجميع يخافه تعالى؛ لأنّ بيده الجنة والنار، فيتقونه طمعًا في الجنة، وهربًا من النار. وجاء في روايةٍ "عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، في قول الله عز وجل: (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) قال: قال الله تبارك وتعالى: أنا أهل أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا، وأنا أهل أن لم يشرك بي عبدي شيئا أن أدخله الجنة، وقال عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى أقسم بعزته وجلاله أن لا يعذب أهل توحيده بالنار أبدا" (5). وكفى بالتفسير والرواية جوابًا على سؤال (كيف يكون الله تعالى متقيًا؟)، فالمقصود هو اسم المفعول لا الفاعل، فيكون سبحانه أهل لأن يُتَّقى فيسمى أهل التقوى. ■السؤال الثالث: ما هي فوائد التقوى؟ ج/ للتقوى فوائدٌ جمة، أوضحتها لنا الآيات الكريمة والروايات الشريفة، منها: 1/ المثوبة: بدليل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْر} (6). 2/ دواء القلوب: بدليل ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "فَإِنَّ تَقْوَى اَللَّهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُم" (7). فإنّ داء القلوب هو جميع الرذائل الأخلاقية، ودواء ذلك الداء هو التقوى؛ فالتكبّر داءٌ قلبي علاجه التواضع الذي أمر الله تعالى به، والحسد داء قلبي علاجه القناعة والرضا، وهكذا، وتلك العلاجات إنّما هي اتقاء غضب الله تعالى بترك ما لا يرضيه. 3/ شفاءٌ لمرض الأجساد: بدليل قول أمير المؤمنين (عليه السلام) شِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ" (8)، الأدران الأخلاقية علاجها اتقاء الله تعالى. 4/ انارة القبور: بدليل قوله (عليه السلام): "مَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبُورِكُمْ" (9)، حيث إنّ العمل الصالح الناتج عن التقوى يتمثل بالنور في عالم البرزخ، فيضيء القبور. ■السؤال الرابع : روي عن الإمام علي (عليه السلام): "إنّ لتقوى الله حبلاً وثيقًا عروته، ومعقلاً منيعًا ذروته" ما المراد من الحبل الوثيق والمعقل المنيع الذي اشار له الامام علي (عليه السلام) في حديثه المبارك؟ وكيف يرتبط بالتقوى؟ ج/ قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} (10). وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ} (11). فالإيمان بالله تعالى وبرسله وكتبه قد تم عن طريق العروة الوثقى الذين هم محمد وآل محمد (عليهم السلام)، وسلوك مسلكهم هو الحبل الوثيق المؤدي إلى النجاة، والمعقل المنيع من الوقوع في الشبهات، وما التقوى إلا التمسك بالواجبات وترك الشبهات والمحرمات. ■السؤال الخامس: بما أنّ لله تعالى حبلاً وثيقًا وهم محمد وآل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم)، فماذا روى لنا الحبل الوثيق عن صفات المتقين؟ ج/ يجيبنا أمير المؤمنين (عليه السلام) واصفًا المتقين بإحدى خطبه بأنّ: 1/ منطقهم الصواب. 2/ ملبسهم الاقتصاد. 3/ مشيهم التواضع. 4/ لا ينظرون إلى المحرّمات. 5/ لا يسمعون إلاّ الأمور النافعات. 6/ البلاء والرخاء عندهم سواء. 7/ لا عظيم إلاّ الخالق عندهم. 8/ هم متأملون في الآيات القرآنية. 9/ الخير منهم مأمول والشر منهم مأمون. 10/ نحفاء الأجساد من كثرة العبادة. 11/ خفاف الحاجات من كثرة الزهد. 12/ هم عفيفو الأنفس من شدة التسليم. 13/ أُسود في النهار، ورهبان في الليل. 14/ يصبحون حامدين على ديمومة الحياة، ويمسون شاكرين على طيلة الأعمار. وصفات اخرى كمالية عديدة وصفهم بها (عليه السلام). ___________________ (1) المعجم الوسيط. (2) ميزان الحكمة: للريشهري، ج10، ص646. (3) قاموس الغني. (4) الميزان في تفسير القرآن: للسيد الطباطبائي، ج20، ص102. (5) التوحيد: للشيخ الصدوق، ب1، ح6. (6) البقرة: 103. (7) نهج البلاغة: خ 198. (8) المصدر نفسه. (10) البقرة: 256. (11) لقمان: 22. (12) مصدر سابق، خ 193. اللّهم أكرمنا بالتقوى، ووفقنا للتي هي أزكى، بحق محمد وآله أولي الحجى.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 4 سنوات
621

حوارٌ مبين في زيارة الأمين (۸)

بقلم: علوية الحسيني/ ودعاء الربيعي "مشتاقةً إلى فرحة لقائك" موضوع هذه الفقرة هو الاشتياق الى لقاء الله جل وعلا. وقد ورد في حديث عن الإمام علي (عليه السلام): " من أحب لقاء الله سبحانه سلا عن الدنيا". وكالعادة نبينها من خلال أسئلة وأجوبتها. ■السؤال الأول: ما المراد من مفردة الاشتياق التي ذكرها الإمام السجاد )(عليه السلام) في زيارته، وماذا يقصد الامام من فرحة اللقاء، هل هي عند الموت أو في وقت آخر؟ ج/ كثيرٌ منّا يبحث عن الله تعالى، ويكأنّه ضائع! فماذا لو جعلناه فينا روحًا إن لم تكن موجودة سُلبت منّا الحياة؟! ماذا لو جعلنا موعد لقائنا معه ودًا نتوق إليه بلهفةٍ وشوق؟! ماذا لو تلذذنا بمناجاته وتركنا روحنا تهيم في سبحات كلامه، فتنهل من ذلك الفيض القدسيّ؟! ماذا لو أخلصنا له قلبنا وتركنا عقلنا لا يفكّر بسواه؟! ماذا لو أزلنا عن بصيرتنا حجاب الدنيا، وعن بصرنا غشاوة الغفلة والفانيات؛ لنستشعر حلاوة لقاء المعشوق الحقيقيّ والباقي السرمديّ، الله الواحد الأحد العليّ؟! حينها ستنجلي عن القلب أدرانه ووساوسه وأحقاده، ويغلبه صفاء الملكوت ونقاء السماوات وطمأنينة الجنّات. وعندئذٍ لانبحث عن الله تعالى لأنّه معنا أينما نكون، بَل نبحث عن ذاتنا الضائعة، ونعيش حالة فرحة لقائه القلبية. الاشتياق هو: "ميول النفس إلى شيء" (1). والفرح: هو حالة الابتهاج والاطمئنان. أمّا لقاء الله تعالى: فليس المراد به اللقاء الذي يكون بين شخصين في مكانٍ وزمانٍ ما؛ فالله تعالى ليس جسمًا حتى يحدّه مكان وزمان، لندّعي لقاءه بهذه الكيفية، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرا... جاء في مناجاة الإمام زين العابدين (عليه السلام): "وَلَمْ تَجْعَلْ لِلْخَلْقِ طَرِيقاً إلى مَعْرِفَتِكَ إلاَّ بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِك" (2). وعليه، فإنّ لقاء الله تعالى يكون لقاءً قلبيًا في كل آنٍ، وهو كالتالي تسلسلاً مع العوالم التي يعيشها الإنسان: 1- رؤية الله تعالى رؤية قلبية في الدنيا للمؤمنين، وشرطها ازالة الحجب المانعة من ذلك، كالمعاصي، ورذائل الأخلاق، وشدّة الإيمان بالله الواحد الأحد، ومستند ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما سُئل فقيل له: "يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، وقال: كيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان" (3). فهنا سيّد الموحدين (عليه السلام) يصرّح أنّ رؤية الله تعالى تكون رؤية قلبية، تتمثل في تجلّي المعرفة الإلهية في قلب العبد المؤمن. 2- الموت، بشرط الاستعداد له، وحبّه، فمن يقبل على الموت يكن فرحًا بلقاء كرامة الله تعالى له، وحيث أنّ الإنسان بعد موته ينتقل إلى عالم البرزخ في قبره، فيكون قبره أمّا روضة من رياض الجنان، أو حفرة من حفر النيران، فتعرض على الميت مكانته حسب أعماله، فيكون فرحًا للقاء كرامته عند الله تعالى إذا كانَت الجنة مستقره، ويغتم إذا كانت النار مستقره؛ قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب} (4). فاذا كانت النار تعرض على أصحابها في قبورهم، فالجنة كذلك، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير تلك الآية الكريمة أنه قال: "البرزخ : القبر ، وفيه الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة" (5). 3- يوم القيامة، بشرط أن يكون قد عمل صالحًا في الدنيا، وأطاع ربّه، ومستند ذلك: أ) قول الله تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا} (6)، فمن عدل الله تعالى أنّه قد جعل معادًا إليه يرجع العباد، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي، وبالتالي من كان يريد لقاء كرامته عند ربّه –وهي الجنة- فليمتثل لأوامر ربّه في الدنيا، ولينتهِ عن نواهيه. ب) قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة} (7)، فالوجوه التي تتصف بالنضارة أي بالإشراق هي التي تنظر إلى كرم ربّها، هكذا بالمضمون جاءت الروايات مفسرةً للآية الكريمة، مؤولة النظر إلى الله تعالى بالنظر إلى كرمه سبحانه. ج) والإمام زين العابدين (عليه السلام) يعطينا تمثيلاً آخرًا لمن يرجو لقاء الله تعالى، وذلك في دعائه الذي علّمه لأبي حمزة الثمالي، بقوله: " أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني وأخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني، (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة وذلة)" (8). ■السؤال الثاني: لماذا لا تمكن رؤية الله تعالى يوم القيامة بالعين المجردة؟ ج/ إنّ عقيدتنا هي امتناع رؤية الله تعالى رؤية بصرية في الدنيا والآخرة؛ لأنّه تعالى ليس جسمًا حتى نقول ممكن أن نراه، فإنّ الجسم محاطٌ بزمانٍ ومكان، وتقدّس ربّنا عن ذلك، ويدل عليه باختصار: أن الله تبارك وتعالى موجود مجرد تجرداً تاماً، فلا يكون مرئياً بالعين المادية. ومما يُشير إلى هذه الحقيقة قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} (9)، وقوله سبحانه: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} (10). الإنسان المؤمن إذا وصل إلى أعلى مراتب الإيمان بحيث يحصل له القطع واليقين والعلم المتين بوجود الخالق العظيم من خلال الآثار والحقائق والآيات الدالة عليه سوف يرى الله تعالى - بقلبه، ووجدانه، وعقله المُذعن، الخالي عن الماديات، الصافي من الشكوك والتخيلات - رؤية نورانيّــة معنويـة. ■السؤال الثالث : كيف يجسد العبد المؤمن اشتياقه لله تعالى، هل هناك بعض الأعمال التي يؤكد بها العبد حبّه واشتياقه للباري عز وجل؟ ج/ ممكن أن تكون من تلك الأعمال: 1/ معرفة اصول الدّين. 2/ تعظيم الله تعالى والإحاطة بأدنى المعرفة به تعالى، وهي ما روي عَنْنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ عَن أَبِي الْحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلام) سَأَلْتُهُ عَنْ أَدْنَى الْمَعْرِفَةِ فَقَالَ: الاقْرَارُ بِأَنَّهُ لا إِلَهَ غَيْرُهُ ولا شِبْهَ لَهُ وَلا نَظِيرَ وأَنَّهُ قَدِيمٌ مُثْبَتٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ فَقِيدٍ وأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ء"(11). 3/ الالتزام بفروع الدّين. 4/ التحلّي بأخلاق محمد وآله الطاهرين (عليهم السلام). 5/ التدبّر في آيات القرآن الكريم. 6/ المواظبة على الدعاء، والشعور الدائم بالافتقار لله تعالى. 7/ تزكية النفس وجهادها بطرق المشارطة، و المراقبة، و المحاسبة. 8/ الإسراع بالمبادرة إلى التوبة. ■السؤال الرابع: هل يتعارض الاشتياق لله تعالى مع حبّ الحياة الدنيا؟ ج/ عرفنا معنى لقاء الله تعالى، ولنعرف الآن آثار حبّ الدنيا، ثم نرى هل يتجاذب هذان القطبان أو يتنافران؟ روي "عن الصّادقِ عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم﴾ قال: هو القلب الذي سلِم من حب الدنيا"(12). والآن نربط بين لقاء الله تعالى وحب الدنيا، ونقول: أنّهما قطبان متنافران؛ بدليلٍ قرآني، وروائي. 1/ فأمّا القرآني: فهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ* أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُون}(13)، فالآية ظاهرًا تقول أنّ الذين لا يرضون بلقاء الله تعالى –أي لا يكون همهم لقاء ربّهم- ورضوا بالدنيا، وطغى حبّهم لها على حبّهم لربّهم، فهم يعيشون في وحل الغفلة عمّا وراء عالم المادة، فالحياة ليست فقط طعاما، وشرابا، ولباسا، ونكاحا، وعلما لا يقرِّب إلى الله تعالى، بل هي أسمى من ذلك، وللتكامل خلقنا، فبالاستكمال نرتقي شيئًا فشيئًا عن عالم المادة إلى العوالم الأخرى. 2/ وأمّا الروائي، فهو ما روي عن مولى الموحّدين عليه السلام أنه قال: "كما أَن الشمس والليل لا يجتمعان كذلك حب اللَّه وحب الدنيا لا يجتمعان"(14). وهنا تساؤل: كيف تكون الدنيا حجابًا بيننا وبين لقاء الله تعالى، والحال بها نؤدي عباداتنا، وصالح معاملاتنا؟ يجيبنا على ذلك الإمام علي (عليه السلام) بما روي عنه أنّه قال لشخصٍ يذم الدنيا: "أيها الذامّ للدنيا، المغترّ بغرورها، المخدوع بأباطيلها، أتغترّ بالدنيا ثم تذمّها؟ - إلى أن قال - إن الدنيا دار صدق لمن صدّقها ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلّى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله..."(15). فاتضح أنّ الدنيا التي تحجب عن الله تعالى هي المذمومة، أما ما تقرب إليه فهي ممدوحة، وهي بالحقيقة مزرعة الآخرة. ______________ (1) لسان العرب: لابن منظور، مادة شوق. (2) الصحيفة السجادية: مناجاة العارفين، ص211. (3) التوحيد: للشيخ الصدوق، ب8، ح6. (4) غافر: 46. (5) تفسير القمي: لعلي بن ابراهيم، ج1، ص19. بحار الأنوار: للعلامة المجلسي، ج6، ص214. (6) الكهف: 110. (7) القيامة: 22-23. (8) مفاتيح الجنان: للشيخ عباس القمي، ص239. (9) الشورى: 11. (10) الأنعام: 103. (11) الكافي: للشيخ الكليني، ج1، ب 26، ح1. (12) مستدرك الوسائل: للميرزا النوري الطبرسي، ج12، ص40. (13) يونس: 7-8. (14) مصدر سابق، ص 42. (15) نهج البلاغة، ح131. سُبْحانَكَ اللّهُمَّ طَوَتِ الْأَبْصارُ في صُنْعِكَ مَديدَتَها، وَثَنَتِ الْأَلْبابُ عَنْ كُنْهِكَ أَعِنَّتَها، فَأَنْتَ الْمُدْرِكُ غَيْرُ الْمُدْرَكِ، وَالْمُحيطُ غَيْرُ الْمُحاط.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 4 سنوات
716

حوارٌ مبين في زيارة الأمين (7)

بقلم: علوية الحسيني/ ودعاء الربيعي "ذاكرةً لسوابغ آلائك" نبين هذا المقطع من خلال أسئلة وأجوبة: ■السؤال الاول: هل الآلاء و النعم هما مفردتان لمصداق واحد أو أنّ أحدهما يتخلف عن الاخر؟ ج/ لاشك أنّ النعم والآلاء تكرّم من الله تعالى على عباده، وأنّ النعم ظاهرة وباطنة؛ بدلالة الآية الكريمة: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة} (1). ولا فرق كبيراً بين الحمد والشكر، بقرينة كلام له (عليه السلام) في صحيفته السجادية، في دعاءٍ له في حمد الله تعالى، يقول فيه: "وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبَادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ عَلَى مَا أَبْلاَهُمْ مِنْ مِنَنِهِ الْمُتَتَابِعَةِ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ لَتَصرَّفُوا فِي مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ وَتَوَسَّعُوا فِي رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ، وَلَوْ كَانُوا كَذلِكَ لَخَرَجُوا مِنْ حُدُودِ الانْسَانِيَّةِ إلَى حَدِّ الْبَهِيمِيَّة" (2). فالحمد يكون لكل النعم ظاهرة وباطنة. أمّا الذكر فيكون للآلاء الظاهرة فقط؛ وهناك من حلل ذلك فقال: "الشكر لابد أن يشمل كافة النعم التي أغدقها الله تعالى على الإنسان، سواء الظاهرة المعروفة المحسوسة لديه، أم الباطنة الخلفية التي لا يستشعرها بجوارحه، لأنّ الحقيقة هي أن الله تعالى قال: { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة} (3). فالشكر لابد أن يستوعبها جميعًا، لذا قال في الدعاء: واجعل نفسي شاكرةً لفواضل نعمائك، أي أياديكَ الجميلة عليّ بكافة النعم، ومنها النعماء، وهي النعم الباطنة، فجعل الشكر مقابل النعماء، لأنّ من يشكر الخفية فهو للظاهر من النعم أولى بها شكرا. وجعل الذكر مقابل الآلاء السابغة، لأنها ظاهرة محسوسة، فلابد أن تؤدي رسالة، ورسالتها أن تقوم بتذكير النفس أنها مغمورة بنعم الله تعالى، النعم التي لا تحصى ولا تعد، وعندما تكون النفس ذاكرة باستمرار للنعم الالهية، فإنّها ستسير في خط الاتزان" (4)، وهو تحليل حسن المؤدى، سليم الاتجاه. ■السؤال الثاني: ورد في كتاب الله المبارك في سورة الاعراف قوله تعالى (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فقرن الفلاح بذكر آلاء الله والاقرار بها ، فما السر وراء ذلك الاقتران؟ نعم، عرفنا في اجابة السؤال الأول أنّ الإمام (عليه السلام) جعلَ الذكر لسوابغ الآلاء؛ لأنّها ظاهرة محسوسة، فمن يقرّ ويذعن ويذكّر نفسه بآلاء الله تعالى عليه، ويوقظ نفسه من سبات الغفلة، هو فالحٌ لا محالة. وحيث إنّ ذكر الآلاء الله تعالى لا يكون إلاّ بالحمد أو بالشكر، وهذان تسبيحان، والتسبيح ثقلٌ في ميزان الحسنات، فيتحقق الفلاح، يقول تعالى: { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (5). ■السؤال الثالث: كيف يمكن لنا أن نكون من الذاكرين لألاء الله تعالى، كمحمدٍ وآل محمد ( عليهم السلام)؟ ج/ حتمًا أنّ الآلاء متعددة ولا تحصى، كما أن النعم متعددة ولا تحصى، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيم} (6). هنالك آلاء مادية وأخرى معنوية، وهناك آلاء دنيوية وأخرى أخروية، بل هي أعظم حتى من أن تقسّم؛ لئلا نغفل عن قسمٍ منها. الخلاصة/ أنّ الآلاء لا تحصى، وبالتالي لا بد أن يكون لكلٍّ منها ذكرٌ خاص بها يختلف عن الأخرى، وبما أنّها لاتعد ولا تحصى، فينتفي بيان كيفية الذكر الفردي، ويتعيّن بيان كيفية الشكر الكلّي لجميع الآلاء، وممكن أن يكون كالتالي: 1/ معرفة مصدر الآلاء من عند واهبها الواحد الأحد. 2/ دوام الشكر للواهب جلّ جلاله، شكرًا قوليًّا أو فعليًا، جوارحيًّا أو جوانحيًّا بالقدر الممكن. 3/ تحديث الناس عن الآلاء، إذ ذلك بيانٌ لكرم الكريم المتعال. 4/ استعمال الآلاء فيما يحب الله ويرضى. ■السؤال الرابع: ما هي الآثار الإيجابية على ذكر آلاء الله تعالى؟ ج/ الآثار عديدة، منها: 1/ تعظيم الله تعالى. 2/ بيان مدى افتقار الإنسان إلى خالقه. 3/ عدم تغطرس النفس مهما اغدقت بالنعم. 4/ شياع أدب شكر المنعم. 5/ زيادة الحسنات حال الشكر أو الحمد. 6/ القرب من رضا الرحمن، والابتعاد عن شباك الشيطان. 7/ مباهاة الله تعالى لملائكته بالعبد الذاكر لآلائه. 8/ اطمئنان القلب؛ حيث إن ذكر الآلاء هو ذكر لله تعالى. 9/ استنتاج قاعدة أخلاقية تفيد نفعًا على المجتمع وهي لزوم بيان فضل المنعم، وعدم اجحاد ذلك. 10/ التحفيز على الدعاء بزيادة الآلاء. __________________ (1) لقمان:20. (2) الصحيفة السجادية: ص25. (3) لقمان: 20. (4) بيضاء من نور: للسيد محمود الموسوي. (5) المؤمنون: 102. (6) النحل: 18. اللّهُمَّ فَأَلْهِمْنا ذِكْرَكَ فِي الْخَلاءِ وَالْمَلاءِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالاِعْلانِ وَالاِسْرارِ، وَفِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ، وَآنِسْنا بِالذِّكْرِ الْخَفِيِّ.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 4 سنوات
695

حوارٌ مبين في زيارة الأمين (٦)

بقلم: علوية الحسيني/ ودعاء الربيعي "شاكرةً لفواضل نعمائك" محور حديث هذه الحلقة هو المقطع المبارك من زيارة أمين الله، الواردة عن مولانا الامام السجاد (عليه السلام) وهو الشكر لفواضل نعم الله تعالى. ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر على العباد. وروي عن الإمام علي (عليه السلام): من شكر الله سبحانه وجب عليه شكر ثان، إذ وفّقه لشكره، وهو شكر الشكر. ونبين المقصود من خلال اسئلة وأجوبتها: السؤال الاول : ما هو الشكر؟ وما المراد من فواضل النعم التي دعا الامام السجاد (عليه السلام) لشكرها في زيارة آمين الله؟ ج/ الشكر: "هو عرفان النعمة من المنعم، والفرح به، والعمل بموجب الفرح بإضمار الخير، والتحميد للمنعم، واستعمال النعمة في طاعته" (1)، وهو عكس الكفران: "فإنه عبارة عن الجهل بكون النعم من الله، أو عدم الفرح بالمنعم والنعمة من حيث إيصالها إلى القرب منه، أو ترك استعمال النعمة فيما يحبه المنعم، أو استعمالها في ما يكرهه" (2). ويتحتم على العبد شكر الله تعالى في السراء والضراء؛ وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أتاه أمر يسره قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه أمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال" (3). ■السؤال الثاني : هناك حديث عن الامام الصادق (عليه السلام) في موضوع الشكر، وهو (تمام الشكر اعتراف لسان السر خاضعا لله تعالى بالعجز عن بلوغ أدنى شكره، لأن التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها) فما المراد من هذا الحديث؟ ج/ إنّ المتعارف بيننا نحن كمخلوقات مادية أنّ للشكر مراتب تنتهي بأعلاها، فلو أردت شكر عبدٍ ما لأديت شكره تثمينًا منك على نعمه عليك. أمّا لو أردت شكر الله تعالى فإنّك مهما شكرت فلن تصل إلى أدنى درجات الشكر، فكيف بك أن تصل إلى أعلى درجات الشكر؟! وحالة العجز هذه الجميع يعترف بها تجاه شكر الله المنعم، والسبب واضح، فإنّ الشكر يكون على النعم، وكلّ النعم متجددة، إذًا الشكر متجدد، فلن يصل بنا الحال إلى الشكر بمرحلته الأدنى. وروي: (أن الله - عز وجل - أوحى إلى موسى (عليه السلام): يا موسى! اشكرني حق شكري. فقال: يا رب! كيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي؟ قال: يا موسى! الآن شكرتني، حيث علمت أن ذلك مني). وأوحي ذلك إلى داود، فقال: (يا رب! كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك). وفي لفظ آخر: (وشكري لك نعمة أخرى منك ويوجب علي الشكر لك، فقال: إذا عرفت هذا فقد شكرتني). وفي خبر آخر: (إذا عرفت أن النعم مني، رضيت عنك بذلك شكرًا). وروي: (أن السجاد (عليه السلام) كان إذا قرأ هذه الآية (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) يقول: سبحان من لم يجعل في أحد من معرفة نعمه إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها!). فالتقصير في بلوغ الشكر أكمل مراتبه ملحوظ علينا؛ لتجدد نعم الله تعالى. ■السؤال الثالث: كيف يكون الشكر؟ ربما يتسأل البعض عن الطريقة المثلى لشكر الله على نعمه وأنها هل تقتصر على القول واللهج ب(شكرًا لله) أو إن هناك طرق أُخرى لشكر الباري (عز وجل)؟ ج/ الشكر مفهوم واحد إلاّ أنّ له مصاديق عديدة؛ فالشكر له تقسيمات عديدة بلحاظاتٍ مختلفة. فمن تلك التقسيمات: شكرٌ جوارحي، وشكر جوانحي. الجوانح هي المستقبلات الداخلية التي توجد داخل تجاويف الجسم، وفي أحشائه، وتسمى (بروبريسبتورز). أما الجوارح فهي المستقبلات الخارجية، المتمثلة بأعضاء الحس، وأعضاء الحركة الخارجية، وتسمى (ريسبتورز). وأحد مفردات الشكر الجوانحي هي المعرفة، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه، فقد أدى شكرها"(4)، والقلب من الجوانح، وبه تم الشكر. ومن تلك التقسيمات: شكرٌ قولي، وشكرٌ فعلي؛ إذ إنّ الإنسان يصدر منه القول والفعل. ثم إن هناك قاعدة عقلية توجب على الإنسان معرفة ربّه، تسمى (قاعدة لزوم شكر المنعم) ومفادها: أنّ المعرفة بالمنعم لابد أن تكون سابقة ثم نشكره. نعطي مثالاً عليها: لو فتحت باب الدار ووجدت هديةً دون أن تعرف من المرسل، لحكم عقلك بوجوب شكره، وقبل ذلك يحكم بلزوم معرفة المرسل أولاً، ثم شكره، إذ يستحيل شكر المجهول. ومعرفته تتحقق بالبحث عنه، وشكره يتحقق إمّا بالقول بكلمة (شكرًا، أو كلمة مرادفة لها)، وإمّا بالفعل (وهو الفعل الذي يرتضيه المرسل). كما يجب أن يكون الشكر بكلا قسميه لائقًا بحق المرسل؛ فمثلاً لا يليق بك أن تقول كلمة تدل على الشكر يستعملها الأطفال إذا كان المرسل إنسانًا كبيرا. كما لا يليق بك أن تهدي المرسل كتب أطفالٍ إذا كان المرسل إنسانًا عالمًا. وهكذا الحال مع الله تعالى، يجب أن يكون الشكر لائقًا مع مقامه سبحانه. فأمّا الشكر القولي فالآيات الكريمة، والأدعية المباركة كفيلة بتعليم العبد أدب شكر الله تعالى. وأمّا الشكر الفعلي، فعقل الإنسان قاصر عن معرفة جميع الأفعال التي تكون مرضية لله تعالى حتى تكون شكرًا له، لذا تعيّن أن يحدد تلك الأفعال من هو أكمل منه، ولا كمال مطلقاً إلاّ لله تعالى، فهو سبحانه من حدد تلك الأفعال، وهي ما تسمى بالتكاليف الشرعية، وأوجبها بدرجات، فكلّف كل عبدٍ حسب وسعه بشرطه وشروطه، وهي فروع الدّين. ثم إن الشكر القولي لازمه الشكر الفعلي؛ لأن الكلام فعل من أفعال الإنسان الظاهرة، وقد روي عن الإمام علي (عليه السلام): "شكر المؤمن يظهر في عمله، وشكر المنافق لا يتجاوز لسانه"(5)، ■السؤال الرابع: ماهي الآثار الايجابية والسلبية التي يتركها الشكر على العباد؟ ج/ من الآثار الإيجابية: 1/ الرزق بالنعم بدلالة قوله تعالى: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ}(6). 2/ عفو الله تعالى بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}(7). 3/ ذكر الله تعالى للعبد الشاكر بدليل قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُون}(8). 4/ العبد الشاكر ضمن القلة المحمودة بدليل قوله تعالى: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُون}(9). 5/ للشاكر ثواب أهل الآخرة بدليل قوله تعالى: {مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِين}(10). 6/ التحلي بصفات أو أخلاق الله تعالى بدليل قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيما}(11). أمّا الآثار السلبية، فمنها: 1/ إن ترك الشكر مذموم عقلاً وشرعًا. 2/ الزهد في اصطناع المعروف. 3/ سرعة زوال النعم. 4/ منع الزيادة. _________________ (1) جامع السعادات: للمحقق النراقي، ج3، ص187. (2) المصدر نفسه. (3) أمالي الطوسي: للشيخ الطوسي، ج1، ص49. (4) الكافي: للشيخ الكليني، ج2، باب الشكر، ح15. (5) غرر الحكم: للآمدي التميمي، ص195. (6) القمر: 35. (7) البقرة: 52. (8) البقرة: 152. (9) البقرة: 243. (10) آل عمران: 145. (11) النساء: 146. والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآل الطاهرين الشاكرين.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 4 سنوات
864

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 6 سنوات
76639

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
56442

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 6 سنوات
43858

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 6 سنوات
43464

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
40121

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 6 سنوات
33504