وما الإنسانُ في الدُنيا إلا كضيفٍ عابر ولا بُدَّ أنْ نُذكِّرَ الضيفَ أنّه ذات يوم راحل. بقلم: علياء سامي (2) فراق. قبلَ ما يُقاربُ الشهرين، في يومٍ هادئٍ ومُريبٍ رنَّ هاتفي، إنّه أبي، فأجبتُ والبسمةُ تعلو شفتيّ.. - مرحبًا أبي.. - م ر ح ب ا.. بكِ.. ي ا.. اب ن ت ي.. - ما بكَ يا أبي؟ لمَ تتلعثمُ الكلماتُ في فمك؟ وما به صوتُك؟ هل أنتَ تبكي؟ تكلّمْ يا أبي؛ فقد أرعبتني. - إنّ أخاكِ قد أصيبَ بفايروس كورونا، وجميعُ من في المنزل أصيبَ بالعدوى. - ماذا تقولُ يا أبي؟! - تماسكي يا ابنتي وحافظي على هدوئك، سنُشفى بإذنِ الله (تعالى). - لكنّي لم أزرْكم مُنذُ زمنٍ وأودُّ القدوم، أريدُ رؤيةَ أخي، كيفَ حاله؟ هل هو مُتعَب؟ - إيّاكِ والقدوم، لا تقلقي سنكونُ بخير، سأغلقُ الهاتفَ ولكن عِديني إلّا تبكي. - حسنًا يا أبي، ولكن لا تقطعوا، سأكونُ بانتظارِ أخبارٍ تبعثُ الطمأنينةَ في قلبي. كانتْ مُكالمةً قصيرة، لكنّ كُلَّ قواي انهارتْ على إثرها، ومررتُ بحالةِ صمت. مرّتِ الأيامُ والليالي والأخبارُ تُثلِجُ الصدرَ؛ فإنّ أهلي قد تحسّنتْ حالتُهم الصحيةُ ولم يبقَ إلا القليلُ وأذهبُ لزيارتهم، وفي يومٍ آخر اتصلَ أخي فرحًا ومشتاقًا لرؤيتي فأخبرتُه بأنّه لم يبقَ إلا القليلُ وسآتي لزيارتهم، وتشاركنا الفرحَ وعلتْ ضحكاتنا وأطلنا الحديث.. وكانَ هذا الاتصالُ مُختلفًا عمّا سبقه.. لكن.. في اليومِ التالي رنَّ الهاتفُ ووصلني خبرُ وفاةِ أخي! لم أستطِعِ التصديقَ؛ فأخي قد تعافى من المرض وبالأمس قد كلّمني، ذهبتُ مُسرعةً إلى منزلِ والدي لكي أجوبَه بحثًا عن أخي لكنّني لم أرَه بحثتُ طويلًا ولم أرَ سوى حزنِ أمّي وأبي.. لكن صوته يرنُّ في أذُني بينَ الحينِ والآخر وصورته تتجلّى أمامي.. أينَ أنتَ يا أخي؟ هل حقًّا دفنوك؟ هل أهالوا الترابَ على جسدك؟ وكيفَ لهم أنْ يفعلوا ذلك؛ فلا زلتَ في عمرِ الزهور؟! إلى من ألجأ بعدك؟ أم كيفَ لي أنْ أتقبّلَ ذلك؟ رحلتَ يا أخي دونَ أنْ أراك، رحلتَ وأنتَ مُشتاقٌ إليّ.. أما كانَ بإمكانك الانتظارُ قليلًا كي أُكحِّلَ ناظري برؤياك.. عُدْ يا أخي؛ فنارُ فراقك تُحرقني.
اخرىمن وحيّ الأخلاق(41) بقلم: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي ثقافةُ الروح من الأُمورِ التي باتتْ من الواضحاتِ اليومَ هو أنَّ حقيقةَ الإنسانِ تتمثَّلُ في جُزأين أساسيين، هما: الجسدُ والروح، فالإنسانُ ليس مُجرَّدَ جسد، وإلَّا أصبحَ هو والحجر سواء، وليس هو مُجرَّدُ روح، وإلَّا لأصبحَ ملاكًا يمشي علىٰ الأرض! ومن الأُمورِ الواضحةِ أيضًا هو أنَّ لكلٍّ من الروحِ والجسدِ آثارَه الخاصَّةَ علىٰ سلوكِ الإنسان، فالجسدُ له تأثيراتُه الخاصَّةُ علىٰ سلوكياتِ الإنسانِ اليومية، وكذلك الروحُ...، وهذا نابعٌ من نوعِ الثقافةِ التي يعيشُها الجسدُ أو الروح، بمعنىٰ أنَّ الإنسانَ في كدحِه اليومي في الحياة، تتكوَّنُ عندَه مفاهيمُ واعتقاداتٌ مُتنوِّعة - وفقًا لما يردُ عليهِ من الخارجِ من مؤثِّراتٍ مُتنوِّعة - تُؤثِّرُ في سلوكه، وهي مُرتبطةٌ إمَّا بثقافةِ الجسدِ أو بثقافةِ الروح...، وهذا يُؤدّي إلىٰ أنْ يختلفَ الناسُ في ثقافاتِهم الجسديةِ والروحية. ما معنى هاتين الثقافتين؟ إنَّ ثقافةَ الجسدِ تعني فيما تعنيه أنْ يعتنيَ الإنسانُ بجسدِه وما يرتبطُ به، فلا يلبسُ إلَّا النظيفَ والمُرتَّب، ولا يأكلُ إلَّا الصحّيَّ والنافع، ولا يُتعِبُ نفسَه بأعمالٍ شاقَّةٍ تُهلِكُ الجسد، ولا يقتربُ من المضـرّاتِ بالجسدِ كالخمورِ والمُخدِّراتِ والأكلاتِ العفنة وغيرِ المفيدة...، إنَّها تعني أنْ يجمعَ أكبرَ قدرٍ مُمكنٍ من الأموال، وأنْ يبنيَ أكبرَ بيتٍ يُمكِنُه أنْ يبنيَه، وأنْ تكونَ عندَه مناصبُ مُتعدِّدةٌ يحكمُ بها الناس، و... والخُلاصةُ: أنَّ ثقافةَ الجسدِ تعني ثقافةَ الأخذِ والتملُّك. أمَّا ثقافةُ الروحِ فهي تعني الانتعاشَ الذي يحسُّ به الإنسانُ حين يُدخِلُ السرورَ علىٰ قلبِ صديق، والشعورَ الذي يغمرُه حين يمسحُ بيده علىٰ رأسِ يتيم، والغِبطةَ التي يعيشُها حينَ يرىٰ مؤمنًا قد تعافىٰ من مرضه، إنَّها تعني الفرحَ بتقديمِ مُساعدةٍ لفقير، والحسـرةَ علىٰ يتيمٍ فقدَ أبويه! إنَّها باختصار: ثقافةُ العطاء. التدافعُ بينَ الثقافتين: من المُلاحظاتِ المُهمَّةِ التي تحكمُ هاتين الثقافتين هو أنَّ بينهما نوعًا من التدافُعِ والتمانع؛ ذلك لأنَّ ثقافةَ الجسدِ ترتبطُ بالجانبِ المادّي، وأمَّا ثقافةُ الروحِ فهي مُرتبطةٌ بالجانبِ المعنوي، والإنسانُ كثيرًا ما يُقدِّمُ الملموسَ والمحسوسَ علىٰ المعنوي وغيرِ المرئي! إنَّ الإنسانَ كثيرًا ما تتحكَّمُ فيه مقولة: ما لا أراهُ ولا أحسُّ به فهو غيرُ موجود! ومن ثمّ فإنَّ سلوكياتِه ستتَّجهُ إلىٰ المادّياتِ أكثر من المعنويات، ولسانُ حاله يقول: ما عاقلٌ من باعَ عاجلًا بدَينٍ! ولكنَّ روحَه لا تستسلمُ بسهولة، فهي تعملُ وتُجاهدُ علىٰ أنْ يكونَ لثقافتِها دورٌ في سلوكياتِه اليومية، وحيثُ إنَّها تعتمدُ المعنوياتِ واللّامرئياتِ أكثر من الأُمورِ المرئيةِ والمحسوسة، حينئذٍ تبدأُ علاماتُ التنافُسِ والتدافُعِ تظهرُ علىٰ سلوكياتِ الإنسان! عواملُ مُساعدةٌ لثقافةِ الروح: في هذه المعركة، تتدخَّلُ عدَّةُ أُمورٍ لتساعدَ علىٰ انتصارِ إحدىٰ الثقافتين علىٰ الأُخرىٰ، لكن لا بحدٍّ يقتلُ الثقافةَ الأُخرىٰ، كلَّا، فهذا ما لا يرضاه الدِّينُ ولا الإنسانية، فإنَّ كلًّا من الثقافتين لها آثارُها الحميدةُ علىٰ البشـرية، ولكنَّها أُمورٌ تساعدُ علىٰ أنْ تُسيطرَ إحدىٰ الثقافتين علىٰ سلوكياتِ الثقافةِ الأُخرىٰ، وتلك العواملُ كثيرةٌ، نذكر منها: العامل الأوَّل: التربية: فالإنسانُ ابنُ تربيته، فالذي يُربّيه أبواه علىٰ العطاءِ يصبحُ كريمًا، والذي يُربّيه أبواه علىٰ الاعتداءِ يصبحُ جبّارًا، وهذا أشهرُ من نارٍ علىٰ عَلَم. العامل الثاني: الثقافة العامَّة للمجتمع: فإنَّ الإنسانَ يعيشُ في مُجتمعٍ له ثقافته الخاصَّة، ففي الغربِ ربَّما يتحكَّمُ مبدأ (الاستحواذ) علىٰ جميعِ المبادئ الأُخرىٰ، ومن أجلِ الحصولِ علىٰ الفائدةِ المادّيةِ فإنَّه تجوزُ كُلُّ وسيلة، وتصبحُ مشـروعة، وقد نقلَ أحدُهم أنَّه درسَ في أمريكا بعضَ العلوم، وكانَ أحدُ الأمريكان يعملُ في تدريسِ الإدارةِ فلا يتكلَّمُ عن الأخلاق، ولكنَّه مرَّة قال: الإخلاصُ أساسُ النجاح، فإذا استطعتَ أنْ تخدعَ الناسَ بأنَّك مُخلصٌ فأنتَ ناجح! في بعضِ المُجتمعاتِ يعيشُ الناسُ علىٰ ثقافةِ احترامِ المُتموِّل وابتذالِ الفقير، يعيشون علىٰ ثقافةٍ حكاها لنا شاعر بقوله: يمشـي الفقيرُ وكُلُّ شيءٍ ضدُّه والناسُ تُغلِقُ دونَه أبوابَها وتراهُ مبغوضًا وليسَ بمُذنبٍ ويرىٰ العداوةَ لا يرىٰ أسبابَها حتَّىٰ الكلاب إذا رأتْ ذا ثروةٍ خضعتْ لديه وحـرَّكتْ أذنابَها وإذا رأتْ يومًا فقيرًا عابرًا نبحتْ عليه وكشَّـرتْ أنيابَها وقالَ شاعرٌ آخر: كأنَّ مُقِلًّا حينَ يغدو لحاجةٍ إلىٰ كُلِّ من يلقىٰ من الناسِ مُذنبُ وكانَ بنو عمّي يقولونَ مرحبًا فلمَّا رأوني مُعدَمًا، ماتَ مرحبُ! فثقافةُ المُجتمعِ علىٰ كُلِّ حالٍ ستُلقي بظلالِها علىٰ سلوكِ الفردِ ضمنَ هذا المُجتمع، ومن ثمّ سينعكسُ ذلك السلوكُ علىٰ ثقافةِ الروح. العامل الثالث: المُستوىٰ المادّي العامّ: ففي الأحياءِ الفقيرةِ والشعبيةِ تجدُ الأصالةَ العربيةَ ما زالتْ قائمة، فالضيفُ يجدُ البيوتَ مفتَّحةً أمامه، وكُلٌّ يدعوه ليُشـرِّف بيته، ولكن في الأحياءِ الغنيَّةِ ربما يجبُ عليه أنْ يبحثَ عن مطعمٍ وفندق! وطبعًا هذه ليستْ قاعدة عامَّة. العامل الرابع: الوعي الدِّيني: فمن يفهم الدِّينَ علىٰ أنَّه مُجرَّدُ طقوسٍ تُتلىٰ في المساجد، ستتغلَّب ثقافةُ جسدِه علىٰ ثقافةِ روحه، لكنّ الذي يفهمُ من الدِّينِ مشـروعًا إنسانيًا يتدخَّلُ في كُلِّ جُزئياتِ الحياة، سترىٰ دينَه يتحكَّمُ بجميعِ تصرُّفاته، فيُغلِّبُ جانبَ الثقافةِ الروحية. ما الذي نراهُ اليومَ في مُجتمعنا؟ من الأُمورِ المؤسِفةِ التي نعيشُها اليومَ هو أنَّنا نجدُ مُجتمعاتنا تهوي في وادي الثقافةِ الجسديةِ تاركةً الروح مُعلَّقةً لا إلىٰ هؤلاءِ ولا إلىٰ هؤلاء! إنَّ ثقافةَ الأخذِ والتملُّكِ اليومَ باتتْ كارثةً تُحيطُ بنا، ولا نعرفُ المخرجَ منها! تجدُ التاجرَ -البعض منهم طبعاً- كُلَّما كثُرتْ أموالُه قلَّتْ عطاياه! ولا يحفظُ من الكلماتِ إلَّا كلمةَ (الله يُعطيك)! إنَّها ثقافةُ معاوية، التي تتجدَّدُ اليوم، فمعاويةُ في يومٍ من الأيّام قالَ لجلسائه: ألستُم تعلمونَ كتابَ الله؟ قالوا: بلىٰ، فتلا قوله (تعالىٰ): )وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ، فقال: كيفَ تلومونني بعد هذا؟ فقامَ الأحنفُ فقال: ما نلومُك علىٰ ما في خزائنِ الله، إنَّما نلومُك علىٰ ما أنزلَ اللهُ لنا من خزائنه فأغلقتَ عليه بابك! فسكتَ معاويةُ ولم يحرْ جوابًا. ومن الطرائفِ المنقولة، أنَّ في جمعيةٍ خيريةٍ تعملُ في جمعِ التبرُّعات، لاحظَ الموظَّفُ المسؤولُ أنَّ مُحاميًا شهيرًا لم يتبرَّعْ قطُّ للجمعية، فقرَّرَ الاتِّصالَ به وإقناعَه بأنْ يتبرَّعَ للجمعيةِ بجُزءٍ من ماله، قالَ الموظَّفُ للمحامي: عفوًا ولكنّي اكتشفتُ من خلالِ السجلّاتِ أنَّك لم تتبرَّعْ بأيِّ مبلغٍ خلالَ السنتين الماضيتين، فما رأيُك أنْ تتبرَّعَ لنا ولو بجُزءٍ صغيرٍ من المال للجمعية؟ سكتَ المحامي برهةً ثمّ قال: وهل أوضحتْ لك السجلّاتُ أنَّ والدتي مريضةٌ مُنذُ سنواتٍ مضتْ وقد فقدتْ إعانتَها الحكومية؟! فقالَ له الموظَّفُ وهو يشعرُ بالحرج: عفوًا سيِّدي، ولكنّي لم أكنْ أعلم! فقال له المحامي: وهل علمتَ أنَّ لي أخًا ضريرًا ويتحرَّكُ علىٰ كُرسيٍ بعجلاتٍ ويحتاجُ من يعوله؟! مرَّة أُخرىٰ قال الموظَّف: لا، لم أكنْ أعلم، قاطعه المُحامي قائلًا: وهل علمتَ أنَّه بالرغمِ من كُلِّ ذلك فأنا لا أُعطيهم قرشًا واحدًا؟! فكيفَ تُريدني أنْ أتبرَّعَ لجمعيتكم من مالي! أينَ هذه الصورُ عن الصورةِ التي يُريدُها منّا القرآنُ الكريمُ عندما قالَ (عزَّ من قائل): (وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ؟ وقد رويَ أنَّه أُهديَ لرجلٍ من أصحابِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله) رأسُ شاةٍ مشويٍ، فقال: إنَّ أخي فُلانًا وعيالَه أحوجُ إلىٰ هذا حقًّا، فبعثَ إليه، فلم يزلْ يبعثُ به واحدٌ إلىٰ واحدٍ حتَّىٰ تداولوا بها سبعة أبياتٍ حتَّىٰ رجعت إلىٰ الأوَّل، فنزل: (وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقيل: نزلتْ في سبعةٍ عطِشوا في يومِ أُحُد، فجئ بماءٍ يكفي لأحدِهم، فقال واحدٌ منهم: ناولْ فلانًا، حتَّىٰ طيفَ علىٰ سبعتهم، وماتوا ولم يشربْ أحدٌ منهم، فأثنىٰ اللهُ (سبحانه) عليهم... إنَّها النفسُ الكريمةُ، التي تجاوزتِ الحدود! العطاء الحقيقي: قد يفهمُ بعضٌ من الأمثلةِ التي ذكرناها أنَّ العطاءَ الروحي يتمثَّلُ بالعطاءِ المادّي، فيبقىٰ الفقيرُ بعيدًا عن ميدانِ العطاء! كلَّا، إنَّ العطاءَ الحقيقي له مُفرداتٌ كثيرةٌ جدًّا، وهي رخيصةٌ جدًّا بالمقياسِ المادّي، ولكنَّها كبيرةٌ بالمقياسِ الروحي، وإليك بعضًا من هذه المُفردات: 1 - العطاءُ لوجهِ اللهِ (تعالىٰ): فهذا العطاءُ مهما كانَ بسيطًا لكنّه كبيرٌ عندَ الله (تعالىٰ)، وقد رأينا كيفَ أنَّ سورةَ الإنسانِ خلَّدتْ عطاءَ أهلِ البيت (عليهم السلام) رغمَ بساطتِه المادّية، ولكنّ سببَ تخليده كانَ (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُورًا) 2 - العطاءُ في السرِّ: إنَّ صدقةَ السـرِّ التي لا يعلمُها إلَّا اللهُ (تعالىٰ) يكونُ جزاؤها علىٰ اللهِ (تعالىٰ)، وأنتَ عندما تُعطي لا بُدَّ أنْ يكونَ هدفُك إرضاءَ اللهِ (تعالىٰ)، وصدقةُ السـرِّ تُطفئ غضبَ الربِّ. وفي رسالةِ الحقوقِ للإمامِ زينِ العابدين (عليه السلام): «... وحقُّ الصدقةِ أنْ تعلمَ أنَّها ذخرُك عندَ ربِّك عز وجل، ووديعتُك التي لا تحتاجُ إلىٰ الإشهادِ عليها، وكُنت بما تستودعه سرًّا أوثقَ منك بما تستودعه علانيةً، وتعلمُ أنَّها تدفعُ البلايا والأسقامَ عنك في الدنيا، وتدفعُ عنك النارَ في الآخرة» 3 - الابتداءُ بالسلام: فإنَّه من تواضُعِ الروحِ الذي يعني تساميها عندَ اللهِ (تعالىٰ)، فالمؤمنُ يبدأ بالسلام، والبادئُ بالسلامِ بريءٌ من الكبرِ كما رويَ عن الرسولِ الأعظم (صلى الله عليه وآله). 4 - المُجازاةُ علىٰ الصنائع: فإنَّها عطاءٌ ما مثلُه عطاء؛ لأنَّها تُشجِّعُ صانعَ المعروفِ علىٰ الاستزادةِ منه، وما أجملَ ما نُقِلَ من إنَّه: خرجَ الحسنُ (عليه السلام) والحُسينُ (عليه السلام) وعبدُ الله بن جعفر (رضي الله عنه) حُجّاجًا، ففاتتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فرأوا في بعضِ الشعوبِ خباءً رثًّا وعجوزًا، فاستسقوها، فقالت: اطلبوا هذه الشويهة، ففعلوا، واستطعموها، فقالت: ليس إلَّا هي، فليقُمْ أحدُكم فليذبحها حتَّىٰ أصنعَ لكم طعامًا، فذبحَها أحدُهم، ثمّ شوتْ لهم من لحمِها وأكلوا وقيَّلوا عندها، فلمَّا نهضوا قالوا لها: نحنُ نفرٌ من قريش نُريدُ هذا الوجه، فإذا انصرفنا وعدنا فالممي بنا فإنّا صانعون لكِ خيرًا، ثمّ رحلوا، فلمّا جاءَ زوجُها وعرفَ الحالَ أوجعَها ضربًا، ثمّ مضتِ الأيّامُ فأضرَّ بها الحال، فرحلتْ حتَّىٰ اجتازتْ بالمدينة، فبصـرَ بها الحسنُ (عليه السلام) فأمرَ لها بألفِ شاةٍ وأعطاها ألفَ دينار، وبعثَ معها رسولًا إلىٰ الحُسينِ (عليه السلام) فأعطاها مثل ذلك، ثمّ بعثها إلىٰ عبدِ اللهِ بن جعفر فأعطاها مثل ذلك. 5 - المشاركةُ في المشاريعِ الخيرية: مهما كانتِ المُشاركةُ صغيرةً، فمن المُمكنِ أنْ يتَّفقَ الشبابُ والمؤمنون علىٰ أنْ يضعوا كُلَّ شهرٍ مبلغَاً بسيطاً في صندوقٍ خاصٍّ بالفقراء، من المُمكنِ أنْ نتشاركَ في إقامةِ مأتم، من المُمكنِ أنْ نتشاركَ في زيارةِ مريضٍ أو جمعِ مالٍ له، من المُمكنِ أنْ نُقيمَ مجلسَ دعاءٍ جماعي لمريضٍ أو غائب، من المُمكنِ أنْ نُصلّيَ لميِّتٍ صلاةَ ليلةِ الدفن، أو نُصلّي له ركعتين، من المُمكنِ أنْ نقومَ بتوزيعِ كُتُبٍ ومنشوراتٍ عن الإمامِ المهدي (عجل الله فرجه) مجّانية، ومثل هذه المشاريع أكثرُ من أنْ تُحصىٰ! 6 - من عطاءِ الروحِ مُسامحةُ المُسيء! فإنَّه زكاةُ القُدرةِ علىٰ أخذِ الحقِّ منه، ومُسامحتُه تعني أكبرَ قتلةٍ يُمكِنُ أنْ يُقتَلَ بها المُسـيء، هذا إذا لم تُنعِشْ قلبَه وينقلبْ لك صديقًا بعدَ أنْ كانَ عدوًّا، يقولُ (تعالىٰ): (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): نَزَلَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ تَحْتَ شَجَرَةٍ عَلَى شَفِيرِ وَادٍ، فَأَقْبَلَ سَيْلٌ فَحَالَ بَيْنَه وبَيْنَ أَصْحَابِه، فَرَآه رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ والْمُسْلِمُونَ قِيَامٌ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي يَنْتَظِرُونَ مَتَى يَنْقَطِعُ السَّيْلُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِقَوْمِه: أَنَا أَقْتُلُ مُحَمَّداً، فَجَاءَ وشَدَّ عَلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) بِالسَّيْفِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يُنْجِيكَ مِنِّي يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): رَبِّي ورَبُّكَ، فَنَسَفَه جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) عَنْ فَرَسِه فَسَقَطَ عَلَى ظَهْرِه، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَخَذَ السَّيْفَ وجَلَسَ عَلَى صَدْرِه وقَالَ (صلى الله عليه وآله): مَنْ يُنْجِيكَ مِنِّي يَا غَوْرَثُ؟ فَقَالَ: جُودُكَ وكَرَمُكَ يَا مُحَمَّدُ، فَتَرَكَه (صلى الله عليه وآله)، فَقَامَ وهُوَ يَقُولُ: واللهِ لأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي وأَكْرَمُ » 7 - التزامُ بعضِ المُستحبّاتِ والنوافل: فلا يكتفي المؤمنُ بأداءِ ما عليه من خُمُسٍ وزكاة، بل يلتزمُ صدقةً يوميةً ولو كانتْ قليلة، فإنَّ إعطاءَ القليلِ خيرٌ من الحرمان. ولا يكتفي بصلاةِ الفرائض، بل يتعدّاها للنوافل، وليتذكَّرِ الحديثَ القُدسي القائل: «... لا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتَّىٰ أُحِبَّه، فأكون أنا سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِـرُ به، ولسانَه الذي ينطقُ به، وقلبَه الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وإذا استنصـرني نصرته» 8 - نيَّةُ الخيرِ المُستمرَّة: فإنَّها تحكي عن مبدأ نفسـي لفعلِ الخيرِ علىٰ نحوِ الدوام، وهي عملُ خيرٍ لا تعبَ فيه، فاستمرَّ علىٰ نيَّةِ الخير -بمعنىٰ أنْ يكونَ عندك عزمٌ فعليٌ علىٰ فعلِ الخيرِ كُلَّما سنحتِ الفرصة-، فإنَّها من أفضلِ أعمالِ الخير، ولا تنسَ أنَّ الإمامَ الصادقَ (عليه السلام) قال: «إنَّما خُلِّدَ أهلُ النارِ في النار؛ لأنَّ نيّاتِهم كانتْ في الدنيا أنْ لو خُلِّدوا فيها أنْ يعصوا اللهَ أبدًا، وإنَّما خُلِّد أهلُ الجنَّة في الجنَّة؛ لأنَّ نيّاتِهم كانتْ في الدُنيا أنْ لو بقوا فيها أنْ يُطيعوا اللهَ أبدًا، فبالنيّاتِ خُلِّدَ هؤلاءِ وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله (تعالىٰ): (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ) ، قال: «علىٰ نيَّته»
اخرىمن شذا القرآن الكريم(٨) بسم الله الرحمن الرحيم "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ"(الأنعام ١٣٢) ........ يُبيّنُ اللهُ (تعالى) أنَّ علمَه مُحيطٌ بأفعالِ العبادِ، ووفقًا لأفعالهم واختياراتهم ستكونُ لهم درجاتٌ مختلفةٌ في الجنةِ والنار، فهو لا يظلمُ أحدًا وإنّما هم يظلمون أنفسهم، فكُنْ واعيًا في اختياراتِك ولا تبِعْ نفسَك من أجلِ ملذّاتٍ فانية، بلِ استجمعْ نفسَك وادخِرْها لنعيمِ الآخرة.
اخرىومضاتٌ من وصيةِ أميرِ المؤمنين لابنه الحسن (عليهما السلام)(8) قال الإمامُ (عليه السلام): "وتَاجِرِ الْغُرُورِ، وغَرِيمِ الْمَنَايَا وأَسِيرِ الْمَوْتِ" ………… *قوله (صلوات الله عليه): "وتَاجِرِ الْغُرُورِ، وغَرِيمِ الْمَنَايَا وأَسِيرِ الْمَوْت"، لأنّه يظنُّ الربحَ في هذه الحركاتِ والأعمالِ التي تصدرُ منه، فهو يعملُ من أجلِ أنْ يترفّهَ ويتنعّمَ، يعملُ وكأنّه يخلدُ في الدنيا ناسيًا أنّه غريمُ المنايا ومطلوبها، والغريمُ لا بُدّ أنْ يُدركَ خصوصًا إذا كانَ من يطلبه له موعدٌ وقدرُه في الوصول إليه، فكيفَ ينسى ولا يُعَدُّ لذلك اليومَ عدته؟!
اخرىأتمِمْ صيامَك (٧) رسالةٌ لكِ أيّتُها البنت أنتِ جُزءٌ من العائلةِ ومن أعظمِ عباداتِ شهرِ رمضان عونُ والديك، فاحرصي على أنْ تكوني بوجهٍ مُبتهجٍ وروحٍ كُلّها حُبٌّ ونشاط، فإنَّ همومَ الحياةِ أتعبتْ والديك، ولا تنسي أنَّ طاعةَ اللهِ (تعالى) من طاعتهما.
اخرىوما الإنسانُ في الدُنيا إلا كضيفٍ عابر ولا بُدَّ أنْ نُذكِّرَ الضيفَ أنّه ذات يوم راحل. بقلم: علياء سامي (1) متألِّقًا كالبدر. كانَ فائقَ الجمال، فثغرُه الباسمُ دومًا يملأني بالأمل، ويا لصوته العذب ذاك الذي ينشرُ الطمأنينةَ في قلبي، وضحكاته التي تعلو لتعمَّ المكان.. أسمر، وذو عينينِ بلونٍ أسود، وأطراف شعره الناعم ذاك كانت يداي تُداعبانه باستمرار. كان مُتألّقًا كالقمر وأنا أجولُ حوله كالنجم، كانَ لي صديقًا وأخًا وسندًا ومعينًا، وكانَ لي الأقربَ بينَ الناس، هو سرُّ سعادتي وبلسمٌ لكُلِّ جراحي.. إنّه في فترةِ شبابه، له من العمر 26 عامًا، أتعلمون حتى إنّه لم يمضِ الكثيرُ على يوم زفافه، ولا زلتُ أذكرُ ذلك اليومَ بكُلِّ تفاصيله؛ فقد كانَ مُفعمًا بالحيويةِ والنشاط، وآثارُ الفرحِ باديةٌ على وجهه.. لا أستطيعُ وصفَه رغمَ أنَّ عينيَّ كانتا تُحدّقانِ به باستمرار، ومن شدّةِ فرحه قد لمّني في حضنه بشدّة ولم يكُنْ غير الابتسامة والسعادة ردًا مُناسبًا له، فرحتُ معه دون شعور؛ فتلك الفرحةُ قد غمرتني أيضًا.. ولكن مهلًا، فإنَّ كُلَّ ذلك محضُ ذكريات، تارةً أبتسمُ لها وتارةً أخرى أتألّمُ وتخنقني العبرة؛ لأنّ هذا العزيزَ على قلبي باتَ غيرَ موجود، هذا البدر قد اختفى؛ فالموتُ أخذه منّي. أتعرفون من الذي أتكلّمُ عنه؟ إنّه أخي، أخي الذي أستندُ عليه في وجعي.
اخرىالمسؤولية بقلم: أحلام عبد الزهرة. إنَّ الأساسَ في المُجتمعاتِ المُتقدِّمةِ تنشئةُ أفرادٍ صالحين يحملون همَّ مُجتمعهم ويسعون إلى البناءِ والتطوّرِ والتغييرِ المنشود، وهذا ما نجدُه في ظلِّ الإسلامِ وتعاليمه التي تصنعُ إنسانًا سويًا يدركُ مسؤولياته ويؤدّي دوره بشكلٍ صحيحٍ؛ ليعيشَ حياةً كريمة، يقول (عز من قائل): "وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ"(الصافات 24) فكُلُّ إنسانٍ مسؤولٌ ومُحاسبٌ أمامَ الله (سبحانه وتعالى). وتختلفُ هذه المسؤوليةُ من شخصٍ لأخر حسب ما له من دورٍ يمارسه في هذه الحياة، وعليه أنْ يفهمَ أهميةَ تلك المسؤولية المُلقاةِ على عاتقه، رويَ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ألا كُلُّكم راعٍ وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيته" فالشعورُ بالمسؤوليةِ له أهميةٌ كبيرةٌ للبشريةِ عامة ينبثقُ ذلك الشعورُ من حرصِ الإنسانِ على أداءِ تكاليفه تجاهَ ربّه (جل وعلا) وما عليه من أحكامٍ وواجباتٍ فهو مُحاسَبٌ على تقصيره أمامَ اللهِ (عز وجل)، وعليه أنْ يجتهدَ في تهذيبِ نفسه وأسرته ويعملَ الصالحاتِ لينالَ بذلك الصلاحَ في الدنيا والفلاحَ في الآخرة، ثم ينطلق من تلك المسؤوليةِ ليمارسَ دوره في المجتمع، وعليه أنْ يعيَ حجمَ المسؤولية تجاه بلده حتى يكونَ النجاحُ حليفَه في كُلِّ المجالاتِ التي يخوضُ غمارها. والأسرةُ نواةُ المُجتمعِ التي تصنعُ الإنسان؛ لذا فقد حرصَ الإسلامُ على بنائها وعلى رسمِ ملامحِ العلاقةِ بينَ أفرادها بأنْ تكونَ مبنيةً على الأخلاق والآدابِ والفضائلِ والقيَمِ حتى تكونَ قويةً مُتماسكة. فشعورُ الأبِ فيها بأنّه ربُّ الأسرة ومسؤولٌ عن زوجته وأولاده يتبلورُ من خِلالِ الاهتمامِ بتوفيرِ اللقمةِ الحلالِ لهم والحرصِ على تنشئتهم على الأخلاقِ الفاضلةِ وتعليمِهم واجباتهم تجاهَ ربِّهم (جلّ وعلا) وتجاه العائلةِ والمجتمعِ وتجنيبهم الانحرافَ؛ فترى الأبَ المسؤولَ والقدوةَ لأبنائه حنونًا ورحيمًا بهم، يجدونه أينما أرادوا، يحلُّ مشاكلهم لأنّه السندُ والملاذُ والعونُ لهم.. لا أنْ يتنصلَ من مسؤولياته فيفتح الطفلُ عينيه ليرى أبًا عديمَ الشعورِ بالمسؤولية أو ربما يُلقيها على عاتقِ زوجته أو أيّ أحدٍ من أفرادِ الأسرةِ، شخصًا اتكاليًا لا يفهمُ معنى التضحيةِ والإيثارِ من أجلِ سعادة أسرته.. فماذا يتعلّمُ الابنُ من ذلك الأب؟ وهل سينشأُ ولديه شعورٌ بمسؤولياته.. أم ماذا؟ وعلى عكسِ تلك الصورةِ ترى الزوجةَ التي تتحلّى بالمسؤوليةِ تجاه زوجها وأسرتها تسعى بكُلِّ جهدها لتنشرَ الهدوءَ والسعادةَ في البيت وتتحمّل أعباءَ الحياةِ مع الزوج، فغايتُها إسعادُ عائلتها، وأنْ تراهم ناجحين؛ لأنّ حقيقةَ الزواجِ تعاونٌ ومشاركة. على حين كُلُّ ذلك يكونُ مفقودًا عندَ الزوجةِ الأنانيةِ التي لا تشعرُ بأدنى مسؤوليةٍ تجاه زوجها وأولادها. لكن يبقى سؤالٌ مهمٌ بحاجةٍ الى إجابة وهو: كيفَ يتعلّمُ الأبناءُ الشعورَ بالمسؤولية؟ كيفَ ينشأُ الأبناءُ نشأةً يتحمّلون بها المسؤولياتِ التي توكلُ إليهم عندما يكبرون؟ إنَّ الأبناءَ لا يتعلّمون من لا شيء أو من الهواء، صحيحٌ أنّ الشعورَ بالمسؤوليةِ من فطرةِ الإنسانِ لكنّه يحتاجُ إلى ما يُنمّيه ويُقويّه في سلوكه؛ فالأولادُ يتأسّون بذلك الأبِ إنْ كانَ حريصًا على مسؤولياته وأدائها بشكلها الصحيح فتراهم يُقلّدون ما يفعلُ وكيفَ يتصرّفُ فتراهم أناسًا ناجحين في كبرهم؛ لأنّهم وجدوا أسوةً حسنةً تمثّلتْ امامهم. ويتعلّمون من الأُمِّ الشعورَ بالمسؤوليةِ وإشاعةَ جوٍ هادئٍ ومستقرٍ في الأسرة، إذ على الأمِّ أنْ تُعلِّمَ أبناءها مثلًا أنْ يتعلّموا لبسَ الملابسِ لوحدهم أو ترتيبَ ألعابهم لا أنْ تتركَهم ولا توكل إليهم أيّ نوعٍ من الأعمالِ البسيطةِ بدعوى أنّها لا تُريدُ إتعابَهم أو أنّها هي من يجبُ عليها أنْ تؤدّيَ كُلَّ الأعمال، والأبُ يُسنِدُ لهم بعضَ الأعمالِ البسيطةِ وهكذا ينمو ذلك الشعورُ بالمسؤوليةِ في نفوسِ الأبناءِ ويكبر. وما أحوجنا اليومَ كمُجتمعاتٍ عربيةٍ إلى ترسيخِ مفهومِ المسؤوليةِ في حياتِنا وحياةِ أبنائنا التي تغيّرتْ بفعلِ ما يشهدُه العالمُ من تكنلوجيا حديثةٍ وتواصُلٍ اجتماعي، ولا نريدُ أنْ نذمَّ بكلامنا هذا التكنلوجيا الحديثة؛ فالإنسانُ عبرها يتمكّنُ من اكتشافِ أسرارِ الكونِ عبر تسييره المركباتِ الفضائية، أو يسعى لمعرفةِ أسرارِ النفسِ البشريةِ وغيرها الكثير ممّا لا يُمكِنُ إحصاؤه من فوائدِ التكنلوجيا الحديثة التي يستخدمها الإنسانُ استخدامًا إيجابيًا، إلا أنّنا ننتقدُ استخدامَها استخدامًا سلبيًا _وهو الأكثرُ في المجتمع للأسفِ الشديد_ الذي لا همّ لمستخدمها سوى الشهرةِ وإنْ كانتْ بأمرٍ سلبي! وجمعِ الإعجابات والمشاهداتِ بأيّ شكلٍ من الأشكال دونَ إدراكٍ لضررِ ذلك على نفسِه ومُجتمعه.. وهذا بلا شك هو شخصٌ غيرُ مسؤول. وبما أنَّ الإنترنت صارَ جزءًا مهمًّا من حياةِ جميعِ أفرادِ المجتمعِ شئنا ذلك أم أبينا، فلا بُدّ من تفعيلِ مفهومِ المسؤوليةِ في أرواح مستخدميه؛ فلا ينشرون مثلًا ما يُسيءُ إلى الثوابتِ والأخلاقِ والقيم، بل ينشرون الفضائلَ والصفاتِ الحسنة ويحملون همومَ مُجتمعهم ويُساهمون في حلّها، ولا يكونون معولًا هدّامًا لتلك القيم والأخلاق الفاضلة. وهُنا يكمنُ جوهرُ حديثنا بأنّنا لو تحدّثنا عن أهميةِ المسؤوليةِ فبالتأكيدِ لا نُحيطُ بكُلِّ جوانبها عبرَ هذه الأسطُرِ القليلة، لكنّ أهميتَها في التنشئةِ الأسريةِ تكمُنُ بالتدريبِ تدريجيًا مُنذُ الصغر؛ فالإنسانُ نتاجٌ لما يتربّى وينشأ عليه في صغره من جانبٍ وما يكتسبُه من مجتمعه من جانبٍ آخر، وانعدامُ ذلك الشعورِ أمرٌ لا تُحمَدُ عُقباه. لذا فعلى الأسرةِ أنْ تفهمَ عظمَ وأهميةَ تعليمِها أطفالها الشعورَ بالمسؤولية التي هي أحدُ مُرتكزاتِ الحياةِ الأسرية، وما ارتفاعُ عددِ حالاتِ الطلاقِ -التي تشهدُها المحاكمُ العراقيةُ اليومَ بشكلٍ مُرعِبٍ ولأسبابٍ تافهةٍ وغيرِ مُقنعةٍ حسبَ ما تفيدُه الجهاتُ المُختصّةُ في البحثِ الاجتماعي لا ترقى لأنْ تكون سببًا للطلاقِ وتفريقِ أسرةٍ كاملةٍ ومجازفةً في مصيرِ الأبناءِ والتي طالما حرصَ الإسلامُ على بنائها وأكّدَ في توصياته الكثيرةِ على ذلك، ووضعَ لها الأُسُسَ والمبادئَ الكفيلةَ بحفظها وتماسُكِها بعيدًا عن ما يُهدِّدُ أمنها واستقرارها- إلا خيرُ شاهدٍ على انعدامِ الشعورِ بالمسؤوليةِ غالبًا. هُنا يكمنُ أثرُ التربيةِ على الأخلاقِ والآدابِ الإسلامية، فلو كانَ جو الأسرةِ هادئًا يسودُه التسامُحُ والعفو والتغاضي عن زلّاتِ الطرفِ المُقابلِ، يجتهدُ كُلُّ فردٍ فيها أنْ يُتمَّ ما عليه من واجباتٍ لينالَ ما له من حقوقٍ ويُقدِّمَ تنازُلاتٍ لأفرادِ عائلته ليُحافظَ عليها وعلى لمِّ شملِها لاستطاعتِ الأسرةُ تجاوزَ المشكلاتِ وحلّها بشكلٍ يسيرٍ ومواجهة المواقفِ الصعبة في مسيرتها بدافعِ الشعورِ بالمسؤولية. فعلينا أنْ نكونَ أهلًا لتحمُّلِ المسؤوليةِ في جميعِ جوانبِ حياتِنا الاجتماعيةِ والسياسيةِ والاقتصاديةِ والتربويةِ التي تُعاني من تدهورٍ وتراجعٍ إلى الوراء وعدمِ معرفةٍ في التعامُلِ مع الواقع، فعلاجُ المُشكلةِ يكمنُ في معرفتِها أولًا، وأحدُ الأسبابِ التي تعصفُ بالأُسرةِ والمُجتمعِ هو التملُّصُ من المسؤوليةِ التي لم يعهدْها أفرادُها في صغرهم فصعُبتْ عليهم في كبرهم. والدينُ يأمرُنا أنْ لا يتقاعسَ أحدٌ عن أداءِ مسؤوليتِه وواجبه ليكونَ فردًا نافعًا في مُجتمعه مُنبثقًا من الإحساسِ بأنَّ لكُلِّ إنسانٍ رسالةً في الحياةِ الدنيا عليه أنْ يحسنَ تأديتَها على وجهها الصحيح.
اخرىمن شذا القرآنِ الكريم(٧) بسم الله الرحمن الرحيم "وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"(الأنعام ٥٤) ....... إنَّ اللهَ (سبحانه وتعالى) مُتصِفٌ بكُلِّ الصفاتِ الكماليةِ (أي التي فيها كمالٌ للذاتِ المُقدّسة) وحيثُ إنَّ الرحمةَ -وجدانًا- هي صفةٌ كمالية، فقد أوجبَ اللهُ (تعالى) على نفسه أنْ يكونَ رحيمًا بعبادِه ولولا هذه الرحمةُ لقنطَ الناسُ جميعًا وهلكوا بوساوسِ النفسِ الأمّارة.
اخرىومضاتٌ من وصيةِ أميرِ المؤمنين لابنه الحسن (عليهما السلام)(7) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " غَرَضِ الأَسْقَامِ ورَهِينَةِ الأَيَّامِ، ورَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ وعَبْدِ الدُّنْيَا" ………… *قوله (صلوات الله عليه): "غَرَضِ الأَسْقَامِ ورَهِينَةِ الأَيَّامِ، ورَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ وعَبْدِ الدُّنْيَا"، الغرضُ هو الهدف، أي أنّه هدفٌ للأسقامِ والأمراضِ ورهائنُ للأيامِ؛ فالدهرُ يأسرُ، والمصائبُ تستهدفُ كما تستهدفُ السهامُ ذلك المرمى.
اخرىخلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىيستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىبقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرى(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىرحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىانتشرت بين الناس في برامج التواصل الاجتماعي والمنتديات والمواقع الالكترونية الكثير من المقولات المنسوبة للإمام علي بن ابي طالب( عليه السلام )، وهي روايات كاذبة ومنسوبة ولا يوجد لها دلالة في الكتب الحديثية. ومنها هذه المقولة: - [يقول علي بن ابي طالب عليه السلام : كنت اطلب الشيء من الله ... فإن اعطاني اياه كنت افرح مره واحده . وإن لم يعطيني اياه كنت افرح عشر مرات . لأن الاولي هي اختياري ، أما الثانية هي اختيار الله عز وجل ] هذه المقولة كذب لا أصل لها ولا دلالة. فلم أجد لها سنداً في الكتب الحديثية أبداً. اما من حيث المعنى فهي مخالفة للقرآن وللاحاديث النبوية وروايات اهل البيت عليهم السلام، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالدعاء وضمن الاستجابة حتى ولو بعد حين. قال تعالى في محكم كتابه العزيز : (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ). - روي عن رسول الله( صلى الله عليه وآله) أنه قال: «افزعوا إلى الله في حوائجكم ، والجأوا إليه في ملماتكم ، وتضرعوا إليه ، وادعوه؛ فإن الدعاء مخ العبادة وما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب؛ فإما أن يعجله له في الدنيا ، أو يؤجل له في الآخرة ، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا؛ ما لم يدع بماثم» (١) . تأملوا : (افزعوا إلى الله في حوائجكم) ، (والجأوا إليه في ملماتكم) ، (وتضرعوا إليه). إنما يستعين الانسان على قضاء حوائجه الدنيوية والاخروية بالدعاء والابتهال والتضرع الى الله سبحانه وتعالى، فإذا كان المؤمن يفرح بعدم اعطائه حاجته فلماذا يفزع وأي مؤمن علي بن ابي طالب( عليه السلام )الذي لا يطلب حاجة للدنيا . - عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : «اكثروا من أن تدعو الله ، فإن الله يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه ، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة» (٢). إن الله يشتاق إلى دعاء عبده ، فإذا أقبل العبد بالدعاء على الله أحبه الله ، وإذا اعرض العبد عن الله كرهه الله. عن معاوية بن وهب عن ابي عبدالله الصادق عليه السلام قال : «يا معاوية ، من اعطي ثلاثة لم يحرم ثلاثة : من اعطي الدعاء اعطي الاجابة ومن اعطي الشكر اعطي الزيادة ، ومن اعطي التوكل اعطي الكفاية ؛ فان الله تعالي يقول في كتابه : (ومن يتوكل علي الله فهو حسبه). ويقول : (لئن شكرتم لأزيدنكم). ويقول : (ادعوني استجب لكم)(٣). إن بين الدعاء والاستجابة علاقة متبادلة ، وأي علاقة أفضل من أن يقبل العبد على ربه بالحاجة والطلب والسؤال ، ويقبل الله تعالى على عبده بالإجابة ويخصه بها؟ قد يؤجل الله تعالى إجابة دعاء عبده المؤمن ليطول وقوفه بين يديه، ويطول إقباله عليه وتضرعه إليه ... فإن الله يحب أن يسمع تضرع عبده ، ويشتاق إلى دعائه ومناجاته. وفي الختام نقول: الأسلوب لا يخلو من الركاكة ، و من يعرف بلاغة وفصاحة الإمام علي بن ابي طالب( عليه السلام ) يعرف أنه لم يقل هذا الكلام. فلا يجوز نشر مثل هذه المقولات المنسوبة بين المسلمين إلا لبيان أنها كلام مكذوب وموضوع ومنسوب للإمام ( عليه السلام ). لأن ديننا ومذهبنا علمنا أن نتحقق ونبحث في صحة وسند الرواية قبل نقلها . ---------------------------- (١)- بحار الانوار ٩٣ : ٢. ٣. (٢)- وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦١٦. (٣)-خصال الصدوق ١ : ٥٠ ، المحاسن للبرقي ٣ ، الكافي : ٦ في ١١ : ٤ من جهاد النفس. حنان الزيرجاوي ينشر 3
اخرى