Profile Image

رضا الرحمن غايتي

خيرة النساء وظلم التاريخ (1)

خيرة النساء لقب أطلقه الإمام الحسين (عليه السلام) على ابنته سكينة التي أحبها حبا شديدا وأخذت بمجامع قلبه لقداستها وطهرها حتى وصفها (عليه السلام) بهذا الوصف لما وقف عليها يوم الطف، ورآها باكية نادبة، فقال : سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي منك البكاء إذا الحمام دهاني لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة ما دام مني الروح في جثماني فإذا قتلت فأنت أولى بالذي تأتينه يا خيرة النسوان ومما لا شك فيه أن المعصوم بأقواله وأفعاله هو الفاروق بين الحق والباطل، فلا يحب إلا من كان حبيبا لله (تعالى)، فكيف بمن يشتد حبه إليها ؟ بل وكيف بمن يصفها بالسمو والرفعة، بأنها من خيرة النساء ؟! والسيدة سكينة اسمها آمنة، وإنما لقبتها أمها الرباب بلقب (سَكينة) لهدوئها وسكونها. عاشت في كنف أبيها ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) متأثرة بأنفاسه القدسية وأخلاقه الإلهية فكانت شديدة الحياء، تستغرق في عبادتها لله (تعالى)، شهدت واقعة الطف وعاشت آلامها وحُفِرَ في ذاكرتها ما جرى في تلك الواقعة على بيت النبوة من قتل للأحرار وتمثيل بأجساد الأطهار الى نهب بنات الرسالة وسبي ربائب الوحي والتنزيل، حتى كانت تروي تلك القصص بمرارة شديدة وكأن الحدث لم يمر عليه إلا ثوانٍ، وقلبها يعتصره أسى المصاب، وأكتافها تستشعر ألم السياط وتكاد أحداقها تذرف عينيها بدل الدموع كلما شخصت صورة يزيد اللعين وهو يضرب بمخصرته ثنايا أبيها الحبيب، فكانت كأخيها الامام السجاد (عليه السلام) في بكاء دائم وكأمها الرباب في حزن لازم وكعمتها العقيلة زينب في عزاء قائم حتى توفيت (عليها السلام).. بيدَ إن الحسد الزبيري على البيت العلوي لم يكتفِ بتلك الآلام التي جرَّعها الحقد الأموي لهذه السيدة الجليلة في واقعة الطف الأليمة، فراح يؤلف الأكاذيب وينسج القصص مستهدفاً بها طهر هذا البيت وقداسته، والحط من رفعته، والنيل من كرامته، حسداً منه لأحقيته في الخلافة، فامتدت يده الخبيثة تعضدها أقلام ذوي النفوس الدنيئة التي حركها بريق الدنانير الذهبية، وأسال رنينها لؤم مدادها، فأشاعوا قصصاً مكذوبة وأقاويل مزورة، يمكن تصنيفها إلى ظلامتين بحقها (سلام الله عليها)، وهما من أبرز ظُلاماتها (عليها السلام) التاريخية بعد ظلم السبي الأموي. الظلامة الأولى: مجالستها الشعراء وتحكيمها بينهم واستماعها الغناء. الظلامة الثانية: حديث الأزواج. سنتناول كلاً منهما بشيءٍ من الإيجاز.. الظلامة الأولى: مجالستها الشعراء وتحكيمها بينهم واستماعها الغناء. كانت سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير صاحبة ملاحم عمر بن أبي ربيعة معروفةً بالميوعة والتهتك ومجالسة الشعراء والتحكيم بينهم والاستماع الى الغناء وما الى ذلك، وعوضاً من أن يصحح الزبيريون انحراف مسار ابنتهم فإنهم عمدوا الى نسبة كل ما كانت تقوم به الى السيدة الجليلة سكينة بنت الامام الحسين (عليهما السلام) مستغلين تشابه اسم بنت الزبيريين الفاجرة بلقب بنت الامام الحسين (عليه السلام) الطاهرة، فشرعوا في الخلط والتدليس وتزوير التاريخ، واخترعوا القصص الماجنة، ورموا بها شخص «آمنة» سكينة بنت الحسين (عليهما السلام). فقد وضعوا روايات تنسِب إلى هذه السيدة الفاضلة أنها كانت صاحبة مجالس شعرية تجالس فيها الشعراء وتتحدث اليهم وتستمتع بأشعارهم الغزلية وتحكم بينهم، وأن الشعراء كانوا يقولون فيها شعراً، نورد منها رواية رعايةً للاختصار وهي ما نقلها أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني حيث قال (قال أبو الفرج: أخبرني علي بن صالح قال: حدثنا أبو هفان، عن إسحاق ،عن أبي عبدالله الزبيري قال: اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه، فتشوقن إليه وتمنينه، فقالت سكينة بنت الحسين: أنا لكن به، فأرسلت إليه رسولا وواعدته الصورين، وسمت له الليلة والوقت، وواعدت صواحباتها. فوافاهن عمر على راحلته، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن، فقال لهن: والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة في مسجده، ولكني لا أخلط بزيارتكن شيئا، ثم انصرف إلى مكة من مكانه، وقال في ذلك: قالت سكينة والدموع ذوارف منها على الخدين والجلباب ليت المغيري الذي لم أجزه فيما أطال تصيدي وطلابي كانت ترد لنا المنى أيامنا إذ لا تُلام على هوى وتصابي(1) وهذه الرواية مفتراة على هذه السيدة الطاهرة، وموضوعة من قبل الأيادي الحاقدة، وذلك لسقوطها سنداً ومتناً: فأما سنداً، فقد حقق السيد محمد علي بن يحيى الحلو في كتابه (عقيلة قريش آمنة بنت الحسين عليهما السلام الملقبة بسكينة) هذا الخبر من حيث السند وتوصل الى سقوطه عن الاعتبار لضعف رواته ومجهوليتهم. (2). وأما متناً فإن بصمات الوضع واضحة عليه ومن جهاتٍ عديدة: أولاً: قد ذكر أن «نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف اجتمعن»، أ فهل يُعقل أن تكون هذه الحادثة في مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ وفي عهد قريب من زمن الرسالة أيضاً؟ أم هل يُعقل أن تشتاق نسوة من أشراف الأسر إلى شاعر متهتك فاحش الشعر والغزل ويتمنينه ويجتمعن معه ليلة كاملة حتى أضاء الفجر! ثانياً: لِمَ أعرض الراوي عن تشخيص أولئك النسوة، ولم يذكر منهن ولو واحدة فقط سوى السيدة سكينة بنت الحسين (عليها السلام)؟ بالرغم من أنهن كما تذكر الرواية من بيوت اشراف المدينة ولسن من النساء المطمورات التي لا يعرفن أحد. فمن المفترض بالراوي أن يكون على علم ببعضهن على ادنى التقادير.. ثالثاً: اختيار الراوي في قصته الشاعر عمر بن أبي ربيعة دونما سواه ليكون بطلاً لهذه القصة لا يخلو من دلالة يقصدها، فهذا الشاعر معروف بمجونه وخلعه، حتى هشام بن عروة يصف عواقب أشعاره وفحشها بقوله :"لا ترووا فتيانكم شعر عمر بن أبي ربيعة لئلا يتورطوا في الزنا تورطا"(3). وهل يمكن عقلاً أن تتلاءم مجالسة السيدة سكينة (سلام الله عليها) لهكذا شاعر مع ما عرف عن البيت العلوي من العفة والطهارة والترفع عن أدناس الجاهلية ؟! فتخصيص عمر بن أبي ربيعة إذن في هذه القصة يستهدف قداسة البيت العلوي وكرامته ليس إلا. من كل ذلك يُعلَم أن الخبر وإن كان قد روي على أنه مجرد خبر يتناول شاعراً معروفاً آنذاك ويتحدث عن ظرافته وميل النساء إليه بكل براءة في حين انه حيكَ بمكر ولؤم ليلبس ما يروم إليه حقدهم وحسدهم وهو التعرض للسيدة «آمنة» سكينة بنت الحسين بالسوء.. رابعاً: وردت هذه القصة في موضعين آخرين من نفس الكتاب (الأغاني) وبنقل نفس الكاتب إلا أنه يذكر في كلٍ منهما أسم سكينة فقط دونما نسبتها إلى الإمام الحسين (عليه السلام). وهذا التهافت من الكاتب إن دلّ على شيءٍ إنما يدل على أن هناك سكينة أخرى هي بطلة هذه القصة وليست بنت الامام (عليهما السلام) خامساً: من المعلوم أن السيدة سكينة (عليها السلام) عاشت بعد استشهاد والدها وزوجها عبد الله بن الحسن (عليهما السلام) في كنف عمها زين العابدين وسيد الساجدين (عليهما السلام) ومن بعد استشهاده (عليه السلام) انتقلت للعيش في كنف ابنه الامام الباقر (عليه السلام) فهل يقبل منطق أو يصدق عقل بأن من تعيش حياتها منذ ولادتها وحتى وفاتها متنقلة من ظل معصوم الى ظل معصوم آخر وتتنفس أنفاسهم القدسية وتحيطها رعايتهم وفي بيوتهم وتدخل الشعراء عليها وتستمع إليهم ، وتساهرهم حتى الصباح ؟ ولقد أحسن من قال : حدث العاقل بما لا يليق ، فإن صدق فلا عقل له . سادساً: عُلِمَ عنها (عليها السلام) أنها لم تكن حالها بعد واقعة الطف الأليمة كحالها في السابق فقد عزفت نفسها عن الحياة، و رفضت من تقدم لها من الأزواج، واتخذت الحزن خليلا والدمع أنيسا، إذ عاشت حياتها بين دمعة وحزن وتألم وشجن بل إن الاخبار تذكر أن ما من علوية امتشطت من واقعة الطف وحتى نهوض المختار وأخذه بثارات شهداء الطف .. فهل يعقل من تكون هذه حالها أن تمرح مع الشعراء أو تستطيب غزلهم أو تساهر المغنين أو تواعد المتخلعين ؟ أم يُعقل أن تعشق رجلاً هوايته الحديث العاطفي إلى النساء والتغزل بهن وتدمع عيناها عشقاً له، وهما اللتان كادتا أن تجفا لما سكبتا على فاجعة الطف؟! من كل ما تقدم يتضح زيف ما نسب الى هذه السيدة الطاهرة المطهرة ظلما وزورا.. الظلامة الثانية: حديث الأزواج تأتي.. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الأغاني ج1 ص171 (2) أنظر عقيلة قريش آمنة بنت الحسين (عليهما السلام) ج1 ص33 (3) تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان 1 : 281 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
3447