تشغيل الوضع الليلي

الغزو الثقافي وكيفية مواجهته

منذ 5 سنوات عدد المشاهدات : 7227

الثقافة: لغةً: من (ثَقُفَ، ككَرُمَ وفَرِحَ، ثَقْفاً وثَقَفاً وثَقافَةً صارَ حاذِقاً خَفِيفاً فَطِناً)(1)
وأما اصطلاحاً: فهو (مجموع المعارف والقيم الحاكمة للسلوك)(2)
وللثقافة أهمية بالغة؛ لأنها هي التي تجسد الشخصية الاعتبارية أو المعنوية لأية جماعة من البشر سواء كانت أمة أو مجتمعاً أو ما شابه ذلك، وكلما كان لثقافة أمةٍ ما رصيد تاريخي أكبر، كلما دلّ على أصالة تلك الأمة وصمودها وقدرتها على التطور والتقدم من جهة، وقدرة أبنائها على التفاعل الايجابي معها ومع سائر الثقافات الأخرى من جهة أخرى.
كما أن الثقافة وإن كانت جزءً من الحضارة، بمعنى أن كل أمةٍ لها حضارة لابد وأن تكون لها ثقافة، وأن تكون أمةٌ ما لها ثقافة ليس بالضرورة أن تكون لها حضارة، إلا أنه بالرغم من ذلك تمثل الثقافة انعكاساً مؤشراً هاماً على مدى تقدم تلك الأمة أو تخلفها.
وبما أن الثقافة عبارة عن قيم ومعارف فهي تتنوع وتتعدد بتنوع وتعدد تلك القيم والمعارف من جهة، ولهذا لا توجد ثقافة عالمية موحدة، كما أنها تتغير بتغير تلك القيم والمعارف من جهةٍ أخرى، ومن هنا كان للاحتكاك بين الأمم وانفعال بعض الأمم بقيم ومعارف الأمم الأخرى دورٌ كبيرافي انتقال الثقافات وتأثر بعضها ببعض، مما أدى إما إلى اضمحلال وتآكل بعض الثقافات كالثقافة اليونانية التي لم تدم أكثر من خمسمائة عام ومن ثم ابتلعتها الثقافات المختلفة الأخرى، أو إلى انتقال وانتشار البعض الآخر كانتقال الثقافة الاسلامية في العصور الوسطى الى الدول الأوربية في حالتي السلم والحرب أيضاً..
فأما في حالة السلم فقد انتشرت الثقافة الاسلامية عبر الاندلس التي أسس فيها المسلمون حضارة عريقة شملت مظاهر الحياة كافة من علوم وفنون وصناعات ومظاهر سلوك، كما كانت ملتقى طلبة العلم والعلماء، لأنها تمثل حلقة الوصل بين الشرق الاسلامي والغرب الاوربي آنذاك، وكان تأثر علماء الغرب الأوربي بالحضارة الاسلامية يومئذٍ جلياً يدل عليه إقبالهم الكبير على الترجمة من العربية الى اللاتينية، إضافةً الى إنشائهم للجامعات على غرار الجامعات العربية.
وأما في حالة الحرب فإن (الحروب الصليبية [وإن] انتهت بانتصار المسلمين عسكرياً، إلا أن المسيحيين استطاعوا أن ينتصروا علمياً من خلال الذخائر العلمية التي حصلوا عليها في فترة حربهم مع المسلمين)(3)
ولازال للتغير الثقافي بين الأمم أثره البارز على الساحة العالمية حتى الساعة، بل تفاقم حجمه كثيراً عمّا كان عليه في السابق، إذ كان يأخذ وقتاً طويلاً كيما تتأثر به الشعوب وتتبناه، وأما في الوقت الحاضر فقد قصر هذا الوقت كثيراً للانتشار الواسع للإعلام ووسائل التواصل الحديثة التي جعلت من العالم قرية صغيرة.
ومن الجدير بالذكر أن التغير الثقافي قد يتأتى من تغيرات ضئيلة في المجتمع، تتسلل إليه عبر الأزياء أو الأغاني أو الأفلام، فإذا تأثر بها من يعتبرهم المجتمع صفوة أو نجوماً كالفنانين والرياضيين والإعلاميين، دفعهم ذلك إلى سلوك جديد أو تغيير في سلوكهم القديم، وعندما يتأثر محبّوهم ومن حولهم من أفراد بهذا السلوك، فإنهم يبادرون إلى تقليده، وفي هذه الحالة إما أن يلاقي رفضاً من المجتمع وخصوصاً من قبل بعض المثقفين الذين يحاولون تحصين ثقافتهم فيندثر، أو أن يلاقي تقبلاً من المجتمع أو غض النظر عنه فيستمر بل ويستقر مضيفاً قيمةً جديدة في ذلك المجتمع أو مغيراً لقيمةٍ فيه.
وبذلك يكون هذا السلوك هو المسيطر وسواه هو الشاذ، وهذه القيم الجديدة هي الأساس وعكسها هي الاستثناء، وما إن ينتقل من جيل إلى آخر حتى يتحول إلى جزء من ثقافة ذلك المجتمع.
ولعل أكثر من يؤثر في تغيير ثقافات الأمم هم الإعلاميون لأنهم إذا ما تأثروا بأمرٍ أو أرادوا تأثر المجتمع فيه فإنهم بلا شك سيبذلون كل ما في وسعهم من أجل الترويج إليه، لاسيما أنهم يملكون أقوى أداة فعّالة لتحقيق ذلك وهو الإعلام، وقد استغل أعداء الدين الاسلامي هذه الأداة أبشع استغلال خصوصاً أنهم يملكون أقوى إعلام في العالم وبكل أنواعه وأشكاله لاسيما المرئي منه، فقاموا بشنّ هجمةٍ ناعمةٍ على الفكر الديني والثقافة الاسلامية ليعكسوا المعادلة، فتكون ثقافتهم هي الفاعلة والمؤثرة فيما تكون الثقافة الاسلامية هي المنفعلة والمتأثرة..
وتكمن خطورة الغزو الثقافي هذا في البون الشاسع بين الثقافتين، فبينا ثقافتهم قائمة على الانفلات في الحرية والابتعاد عن الدين، في حين أن الثقافة الإسلامية ذات أساس رباني تستمد معارفها وقيمها من القرآن الكريم والسنة النبوية.
وفي الوقت الذي تنجذب فيه ثقافتهم إلى الإفراط و التفريط، كالأفراط في العلم والعمل، والإفراط في الاهتمام بالجسد، وفي رعاية المصلحة الفردية التي جسّدها النظام الرأسمالي، وبالمقابل التفريط في الإيمان والعبادة والتفريط في الاهتمام بالروح وفي رعاية المصلحة المجتمعية. في حين أن الثقافة الاسلامية تؤمن بالتوازن بين الإيمان والعلم، والعبادة والعمل، بين الدنيا والآخرة، بين الروح والجسد.
وقد جاء غزوهم الثقافي للأمة الاسلامية على خطين أو محورين:
الأول منهما مهمته الإساءة إلى الدين الاسلامي وتشويه رموزه المقدسة كخاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) فضلاً عن تشويه المسلمين أنفسهم وإظهارهم بمظهر العنف والوحشية والقسوة والهمجية، بهدف التثقيف العالمي على نبذ هذا الدين العظيم ومحاولة تقبيح صورة رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وأجلَّه عن ذلك ورفع شأنه)، ووسم الفرد المسلم بسمات الإنسان الإرهابي الشهواني اللئيم.
وأما الخط الآخر فكان يهدف إلى تفتيت قيم ومعارف المسلمين أنفسهم وزرع قيم ومعارف أخرى لغرض تمييع الثقافة الاسلامية ومحاولة القضاء عليها وتجريد المسلمين من هويتهم الاسلامية.
وقد نجح هذا الغزو الثقافي - للأسف الشديد - إلى حدٍ ما، ومما يدلُ على نجاحه ما نشاهده اليوم من تأثر بعض الشباب بالثقافات المستوردة وكأنهم بين ليلةٍ وضحاها قد مُسِخوا بعد ما انسلخوا عن ثقافتهم الأم، فلم يعد جوهرهم يدل على ثقافتهم الأصل فضلاً عن مظهرهم، فاختلفت طريقة تفكيرهم باختلاف قيمهم ومعارفهم، فبعد أن كان الوقار والهيبة مثلاً رمزاً للرجولة ومقوِّماً من أهم مقوّماتها، أمسى بعض الشباب ولا مانع لديهم من التشبه بالنساء في السلوك والمظهر، وبعد أن كان الستر والحياء رمزاً للأنوثة أضحى الزي الفاضح والتبرج الفاحش علامته الأولى، وقد انعكس ذلك على ظاهرهم، فلم تعد قصّات شعر بعض الشباب كما كانت، ولا زيّهم المعهود سابقاً، وأما الفتيات فتجد بعضهن يتبارين بخلع لباس العفة والتخلي عن رداء الحياء لهثاً وراء الأنوثة التي صمّمتها أفلام هوليود ورسمتها السينما العربية المتأثرة بها!!
بالإضافة إلى الغزو الثقافي الذي مارسه الإعلام الغربي ولازال، فقد مارس الأعم الأغلب من الإعلام العربي هو الآخر دور المعول الهدّام في تحطيم ثقافة المجتمع العربي، فلا برامجه تغذّي العقل العربي، ولا أفلامه تحث على القيم العربية إلا ما ندر، ولا مسلسلاته تنمي المعارف الاسلامية، بل على العكس من ذلك كله تسعى جاهدةً إلى ترسيخ القيم الغربية والمبادئ المغلوطة والمقاييس المقلوبة.
وقد أسفر كل ذلك عن إصابة الكثير من أفراد المجتمع الاسلامي بانحطاط في الثقافة، وخواء في الجانب العلمي والمعرفي، وتقهقر في الحضارة، واستهانة بالمبادئ والقيم السليمة، وتبديلها بأخرى مستوردة سقيمة، كما أدت إلى التضخم في الاهتمام بأهل الفن والرياضة واتخاذهم قدوات، والانكماش في المجال العلمي والمعرفي والاستخفاف بالعلماء والكفاءات..
ولكل ما تقدم لابد أن تنهض أمتنا الاسلامية نهضة ثقافية قوية لاستعادة أمجاد الماضي حين كانت هي المُصدرة للعلوم والمعارف، وحين كانت حضاراتنا التي سبقتها هي من علّمت العالم القراءة والكتابة. ولانتشال شبابنا الذين هووا في مستنقع الثقافة المادية المنحطة، وليس ذلك بعزيز إذا ما تظافرت جهود صفوة المثقفين، وتكاتفت قوى العلماء الصالحين المصلحين، الذين يتقنون أساس الثقافة الاسلامية الرصين، عبر الوقوف أمام المعارف والقيم الفاسدة التي تصدرها الثقافات الأخرى ومنعها من النمو والانتشار، والترويج للمعارف الحقة وللقيم التي ترتقي بالفرد والمجتمع، وتحويلها من الكتب والعلوم إلى واقع وسلوك، ونشر مضمون الثقافة الاسلامية ومكوناتها من القيم والمعارف، وعدم الاقتصار على سرد الجانب التاريخي منه. ولا يكون ذلك متيسراً ومتاحاً إلا بامتلاك هؤلاء المتقنين لأسس الثقافة الاسلامية للأدوات الفعّالة لذلك كالإعلام بكل أنواعه المرئي والمسموع والمقروء بل وحتى الرقمي منه، وإلا فمن لا حظ له من الثقافة الاسلامية كيف يمكن الاعتماد عليه في نشرها؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) القاموس المحيط ج2 ص361
(2) صناعة الثقافة ج1 ص31
(3) د. علي البيكدلي مقال(دور الحضارة الاسلامية في النهضة الأوربية) مجلة التوحيد، قم، ع77، ص71

رضا الله غايتي

اخترنا لكم

ذريةُ الإمامِ الحسن (عليه السلام) بين الحقيقةِ والوهم

بقلم: وجدان الشوهاني إنّ مسألةَ البحثِ في ذراري أئمةِ أهلِ البيت (عليهم السلام) وظيفةٌ تقعُ على عاتقِ التأريخ، والمعروف أنّ لكلِّ أمّة تأريخًا، وأفضلُ الأُممِ على مرِّ الإزمان هي الأمةُ الإسلاميةُ المُتمثلةُ بنبيّها وأهلِ بيتِه (صلوات الله عليهم). ومن بابِ الولاءِ للنبيّ وأهلِ بيتِه، وتكريمًا لهم كان البحثُ في ذراريهم وزيارةِ مراقدِهم الشريفة وتعظيمها ذا أهميةٍ كبرى عندَ الناس كافة. ومن بينِ كُلِّ المعصومين (عليهم السلام) ارتأينا أنْ نُسلِّطَ الضوءَ على ذُرية الإمامِ الحسن (عليه السلام) التي كانتْ محلَ اختلافٍ وتأويلاتٍ كثيرة، وكما قلنا فالمسألةُ وظيفةُ الكتب التأريخية التي دوّنت سيرةَ المعصومين، وحتى يتبيّنَ الحقُّ لنبحثَ في كتبِ التأريخِ ونُقلّبَ صفحاتِه، ونقفُ على السيرةِ العطِرةِ للإمامِ الحسن (عليه السلام) من جهةِ ذُريتِه، فأغلبُ الروايات أشارتْ إلى أنّ للحسنَ المُجتبى (عليه السلام) من الأولادِ ما بين اثني عشر إلى خمسةَ عشرَ ولدًا، خمسٌ أو ستٌ منهم بنات والباقي ذكور، ولكنّ الواقعَ غيرُ ما أثبتَه التأريخ.. فلنقفْ أولًا على الذكور، فأولادُ الحسن (عليه السلام) الذكور بحسبِ كُتُبِ التأريخ هم -كما جاء في كتاب الإرشاد للشيخ المفيد-: (زيد والحسن المثنى وعمرو والقاسم وعبد الله وعبد الرحمن وحسين الأثرم وطلحة)، القاسمُ وعبدُ الله استُشهِدا مع عمِّهما الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء ودُفِنا مع الشهداء، وأما الحسنُ المثنى الذي شاركَ في كربلاء فقد جُرِحَ وتوفيَ بعدَ ذلك بسنين ودُفِنَ في المدينة، وأما عبدُ الرحمن وهو من ضمنِ من رافقَ الحُسين (عليه السلام) إلى كربلاء فقد توفيَ في الطريق ودُفِنَ في منطقةِ الأبواءِ الواقعةِ بين مكة والمدينة، ولم نقفْ على مراقدِ الباقين. أما أولادُ الإمامِ الحسن (عليه السلام) من الإناث فهُنّ: (أمُّ الحسن وفاطمة وأمُّ عبد الله وأمُّ سَلَمة ويُضافُ إليهنّ رقية) بعضُهن دُفِنَ في المدينة تبعًا لأزواجهنّ، وهذا يعني أنّهنّ مُتزوجاتٌ ولم يُذكرْ في كُتُبِ التأريخ أيُّ خبرٍ عن أعمارِهن أو سيرتِهن عدا السيّدةِ فاطمة (عليها السلام) زوجة الإمامِ السجّاد (عليه السلام) وأمّ الإمامِ الباقر (عليه السلام)، ولعلّ ذكرَها جاءَ من حيثُ كونِها أمَّ وزوجةَ وبنتَ إمام. هذا ما ذكرَه التأريخ، ولكن وكما تقدّم أنّ ما أثبتَه الواقعُ غيرُ ما أثبتَه التأريخُ ونحنُ اليومَ بين أمرين: إمّا أنْ نرمي بتلك الكُتُبِ التأريخية المُعتبرة بعرضِ الجدار، ونسيرُ خلفَ الواقعِ القائمِ على الأحلام والأوهام، وإما أنْ نعتمدَ عليها ونُحكّمَ عقولَنا فيما ننسِبُه للإمامِ الحسن (عليه السلام) من ذراري موهومةٍ بصناعةِ أصحابِ النفوسِ الضعيفة والتخيُّلات. ولابُدّ أنْ نفهمَ الفرقَ بينَ ما جاء في كُتُبِ التأريخ وبينَ الواقعِ المرير، فكُتُبُ السيرةِ والتأريخِ تعتمدُ على الرواياتِ الصحيحة من حيث السند الذي يتصلُ بأهلِ البيت (عليهم السلام)، والنص السليم والذي اعتمدَه علماؤنا الأجِلّاءُ على مرِّ السنين السابقة، ومن أهمِّ مُميّزاته أنّه ثابتٌ. أمّا الواقعُ المرير فهو يعتمدُ على أحلامِ الناس، وقضاءِ الحوائج في بعضِ البقع والدعاية والإعلان لما يحصلُ من حوادثَ على سبيلِ الصُدفةِ؛ ولذا يمتازُ الواقعُ بعدمِ الثبوت؛ فهو مُتغيّرٌ، والدليلُ على ذلك هو التزايُدُ في عددِ ذُريّةِ الإمامِ الحسن (عليه السلام) وبالخصوصِ البنات بالمُقارنةِ مع ما أثبتته الكُتُبُ التأريخيةُ فعدد بناتُ الحسنِ (عليه السلام) في العراقِ فقط قد فاقَ العشرَ بناتٍ، مراقدُهنّ موزعةٌ على بعضِ مُحافظاتِ العراق، فالحلةُ والنجفُ والبصرةُ تشهدُ لتلكَ المراقدِ، ولم يكنِ العددُ ثابتًا، فالزيادةُ كانتْ تدريجيةً بحسبِ الاكتشافِ ولا نعلمُ الاكتشافَ يكونُ على أيّ أساس. هذا بالإضافةِ لما موجودٌ خارج العراق. والغريبَ بالأمرِ أنّ كثرةَ المراقدِ لذُريّةِ الإمامِ الحسن (عليه السلام) تنسجِمُ انسجامًا تامًا مع الشبهة التي أثارها الأمويون حولَ الإمامِ (عليه السلام) من أنّه مِزواجٌ مِطلاقٌ، وأنّه (عليه السلام) قد تزوّجَ سبعينَ امرأةً، ولا نعلمُ هل الأيادي الأموية ما زالتْ تعملُ إلى يومِنا هذا؟! والأمرُ الآخرُ: أنّ الذُريّةَ المُتزايدةَ هي من جانبِ البناتِ فقط، وكأنّ وراءَ المسألةِ عقولًا رصينةً تمتازُ بالمكرِ؛ وذلك لأنّ الذريةَ من حيث الذكور قد لا يُمكِنُ زيادتُها، والسببُ: لأنّ الرجالَ لهم مواقفُ تأريخيةٌ، وأنّ الكُتُبَ التأريخيةَ قد وقفتْ على سيرتِهم على العكسِ تمامًا من البناتِ فسيرتُهن مجهولةٌ من حيث كُتُبِ السيَرِ التي اكتفتْ بذكرِ أسمائهن بالكُنى فقط، ونادرًا ما يكشفُ التأريخُ عن الاسمِ الصريحِ لهنَّ، وهذا الأمرُ ساعدَ في الترويجِ لمراقدَ كثيرةٍ تُحسَبُ للإمامِ الحسن (عليه السلام) بأنّهنّ بناتُه زورًا وبهتانًا. وهُنا لنا وقفةٌ في مسألةٍ أخرى يراها البعضُ دليلًا على أنّ أصحابَ المراقدِ هم أبناءٌ صُلبيين للإمامِ الحسن (عليه السلام) ألا وهو عدمُ ذكرِ موقفٍ للمرجعياتِ الموجودةِ في المسألة.. وكأنّ المسألةَ مسألةٌ فقهيةٌ، على حين أشرنا إلى أنّ المسألةَ هي تأريخيةٌ، ورأيُ المرجعيةِ يستندُ في ذلك إلى الرواياتِ والأخبارِ الواردةِ في كُتُبِ التأريخ ويستحيلُ أنْ يستندَ إلى الأحلامِ والأوهامِ وإلّا لصارتِ الفتوى لُعبةً للصبيان ولن تكونَ وظيفةَ المجتهد. كما أنَّ المراجعَ قد بيّنوا رأيَهم في المسألةِ بعبارةٍ صريحةٍ وهي: (عدمُ الثبوتِ بأنّ أصحابَ المراقدِ الموهومةِ بأنّهن بناتٌ صُلبياتٌ للإمامِ الحسن (عليه السلام)) ولكنّ البعضَ يغضُ النظر عن الرأي، بل وصلَ الأمرُ إلى عدمِ التصديق أو التشكيك بالرأي. بالإضافة إلى استنادِ البعضِ إلى البُنيان والإعمار لتلك المراقد، وهنا لنا كلام؛ فمن جهةِ البناءِ يعتمِدُ على تبرعاتِ الناس وهذا لا يُمكِنُ التحكّم به، ومن جهةٍ أخرى أنّ الأمرَ راقَ لبعضِ السماسرةِ لما تدرُّ عليهم تلك المراقد من أموالٍ، فكُلّما ازدادوا في الإعمارِ ازدادتِ الواردات، وقد تكونُ أيادٍ سياسية تحمِلُ فكرًا يُخالِفُ المذهبَ وراءَ ذلك. ولكن ما يؤسفُ له هو انجرارُ الكثيرِ خلفَ الأحلامِ والأوهامِ، والدافعُ هو قضاءُ الحوائجِ وشفاءُ المرضى، مُتناسين أنّ المُشافي والمُعافي والقاضي للحوائجِ هو اللهُ (سبحانه وتعالى)، وإنّما أهلُ البيتِ (عليهم السلام) هم وسيلةٌ ليس إلّا. وحيثُ أنّ من يزورُ تلك المراقدِ الموهومةِ أو التي لم يثبتْ أنّها من نسلِ الإمامِ الحسن (عليه السلام) باعتقادِ أنّها بنتُ الحسن (عليه السلام)، فإنّ اللهَ يقضي له تلك الحاجة؛ لأنّه توسّل ببنتِ الحسن (عليه السلام) وإنْ كان واقفًا على بُقعةٍ ومرقدٍ وهمي أو لواحدةٍ من ذراري الحسن (عليه السلام) غير الصلبيين. فالتوسلُ صحيحٌ وعلى أساسِه كانتْ الإجابةُ؛ فكم من سائلٍ يسألُ اللهُ (تعالى) ويتوسل بالإمام الحسن (عليه السلام) وهو بعيدٌ عن مرقده وتُقضى له حاجته؟ فما بال من يقِفُ على بقعةٍ باعتقادٍ قلبيٍ صحيحٍ وإنْ كانَ المكانُ غيرَ صحيحٍ، فقضاءُ الحوائجِ وشفاءُ المرضى ليسَ دليلًا قويًا نُثبِتُ به نسلَ الأئمة (عليهم السلام)، فعلينا تحكيمُ العقولِ فيما ننسبُه للأئمة (عليهم السلام). وعلينا أنْ نُنصِفَ الإمامَ الحسن (عليه السلام) الذي تعرّضَ للظُلمِ مرّاتٍ وليس مرّةً واحدةً، ولكنّ الظلمَ الذي ليسَ كمثلِه ظلمٌ هو ظلمُ من ينتسبُ للمذهبِ الجعفري ويظلمُ الإمامَ الحسن (عليه السلام) بتثبيتِ شُبُهاتٍ أثارَها الأعداءُ من خلالِ نسبةِ ذراري للإمامِ من دون الرجوع للكُتُبِ الموثوقة، فعلينا الانتباهُ لما يجري ويُحاكُ ضدّنا وأنْ لا نقفَ مكتوفي الأيدي أمامَ الشُبُهاتِ بحُجةِ أنّها استفحلت في المُجتمع، فمهما بلغتِ الشُبُهاتُ من شُهرةٍ فلن تصيّرَها الشهرةُ إلى حقيقة. ونسألُ اللهَ (تعالى) أنْ يكونَ الجميعُ ممّن يسمعُ ويعي واللهُ وليُ التوفيق.

اخرى
منذ 3 سنوات
2582

خاطرة

حين يكتب العقل فالعلم أنضج .. وحين تكتب العاطفة فالحرف أجمل .. وحين يكتب الضمير فالعدل أقرب . وفقنا الله للأولى وبلغنا الثانية لنصل الى الثالثة بهدوء

اخرى
منذ 3 سنوات
265

خاطرة

صباح يتسحّب بهدوء، كي لا يوقظ الايتام الصغار فهذه آخر صباحاتهم الهنيئة... وانى لهم بعد؛ بنومة يرغدون بها... بعد أبيهم عليّ!! #لاتوقظوا_الايتام #صباح_الجرح

اخرى
منذ 3 سنوات
338

التعليقات

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
69423

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
50369

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41069

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
34915

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32057

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
31657