تشغيل الوضع الليلي

انتفاضةُ قلب!

منذ 5 سنوات عدد المشاهدات : 1041

بقلم: العلوية الموسوي
عندما ينتفض القلب، سينتفض كلُّ شيءٍ في وجود الإنسان ..
فبعد سنواتٍ من الغفلة والذنوب ذات الصور المتعددة والتسويف والتأجيل جاءت تلك اللحظة العظيمة لحظة الانتفاض والتي كانت بمنزلة نظرةٍ إلهية يمنّ الله (تعالى) بها على من يشاء من عباده، فعندها ينتفض القلب ويحيى ليُغيّر كلَّ شيءٍ، فسارع بالهروب وتحرّر من قيوده وسجنه ..
وتحول صاحب ذلك القلب المنتفض إلى إنسان آخر .. كانت ولادةً جديدةً له بكلِّ ما للكلمةِ من معنى، فلقد تغير ظاهره وباطنه..
بدأ نور التوبة يملأ الوجه شيئًا فشيئًا .. نعم تغيّر كلُّ شيءٍ فيه، النظراتُ اختلفت فلم تعد نظراتٍ محرمة أو مخيفة شَزرة بل كلُّها نورٌ وطهارة ...
ترك كلَّ ما يُوصف بالتوافه والسفاسف؛ لأنه أدرك أنَّها مضيعةٌ للوقت وهدرٌ في عمر الإنسان وقرر أنْ لا يتابع كلَّ ما تقع عينه عليه في الفضائيات أو مواقع التواصل..
لم يعد يتلذذ بالكلام على الآخرين كما كان يستغيب ويتكلم على هذا وذاك سابقًا... ترك المزاح الثقيل الذي يؤذي بعض أصدقائه، بل ترك الكثير من أصدقائه؛ لأنهم أصدقاء سوءٍ وحاول أن يغيّر بعضهم فنجح وأصبحوا مثله...
عاهد نفسه أنْ لا يكذب أي كذبةٍ كانت وإن عُدّت بسيطة، فأصبح مبدؤه: الكذب حرام ولا يجوز. ولا يعاهد أحدًا كما كان في السابق فصار يتحرّز من أي وعدٍ وعهدٍ لم يتأكد ويضمن من أنَّه سيفي به ...
كان هذا الانتفاض لقلب وروح أحد الشباب بعد حضور محاضرةٍ دينية في شهر رمضان المبارك احتوت على جملٍ مؤثرة دخلت قلبه وأودت به إلى هذا الحال فأولدته من جديد..

اخترنا لكم

خاطرة

بقلم: صفاء الندى جُدتِ وفاءً حتى آخر شهقة نفس جُدتِ حنانًا حتى آخر غمضة عين فحباك الله المكرمات.. وأعلى لك المقامات.. فَصِرت قاضية للحاجات جزاء إحسانك والثبات سيدتي أم البنين.. أولادكِ وهبوا أرواحهم أربعة متفرقة واستشعرت لوعة فقدهم دفعة واحدة.. ولسان حالك يقول: ما دام الحسين يملأ الكون بطيب وجوده فليذهب الأعزاء وراء أقدارهم.. قد مضى الحسين شهيدًا يا أم البنين فبمن التصبر من بعده؟ السلوى والتصبر بالله (عز وجل).. ولله الأمر من قبل ومن بعد..

اخرى
منذ 5 سنوات
1176

المبحث الثاني: الصيحة الإبليسية (١)

بقلم: علوية الحسيني عرفنا في الروايات الشريفة أنّ هناك خمس علاماتٍ حتمية, لابد من تحققها قبل ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), ومنها: الصيحة. وعرفنا هوية الصيحة الجبرائيلية, ولابد من معرفة هوية الصيحة التي تقابلها, وهي الصيحة الإبليسية, وبما أنّ الصيحة الأولى من العلامات الحتمية, كذلك العلامة الثانية كذلك, فلازم اللازم لازم. ونظرًا لأهمية هذا الموضوع أُفرد في مبحثٍ مستقل, وسيتم بيان هوية هذه الصيحة, من مصدرها, ووقتها, ومضمونها, وهدفها, ونفي اعجازها, وذلك ضمن المطالب التالية: ▪️المطلب الأول: مَصدَر ومُصدِر الصيحة الإبليسية إنّ مَصدر الصيحة الإبليسية هو الأرض, ولذا يُعبر عنها (بصيحة ابليس)؛ إشارةً إلى مُصدِرها وهو -ظاهرًا- ابليس اللعين الذي طرده الله تعالى من الجنة, فنزل من السماء, وسكن الأرض, هو وذريته. وهذه الصيحة أرضية, لا دخالة للملائكة بها, بل هي من فعل ابليسي. فبعد طرد ابليس من الجنة إلى الأرض, شكّل له أعوانًا وجنودًا, كما أخبرنا الله تعالى: {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُون} (18), فلا يستبعد أن ينفذ الصيحة أحد جنود ابليس, وهم الشياطين من الجن, بل لا يستبعد أن يكونوا من الإنس الكفرة؛ بدليل الآية الكريمة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (19), التي جاء في تفسيرها أنّ "الأزّ هو التحريك بشدة وإزعاج, والمراد تهييج الشياطين إياهم إلى الشر والفساد وتحريضهم على اتباع الباطل وإضلالهم بالتزلزل عن الثبات والاستقامة على الحق" (20). وإرسال الشياطين على الكفرة وطلبهم فعل الشر والفساد "ليس جبرًا من الله تعالى؛ بل هم الذين جعلوا الشيطان عليهم ولهم وليًا, فهيمن عليهم, وجعلهم أداةً طيّعة" (21) وبالتالي فكل إنسان يعصي الله تعالى فهو موالٍ للشياطين, وجنود ابليس, ويشكلون حزبًا خاصًا بهم, بقيادة شيطانهم الأكبر -الذي يحتمل أن يكون من الإنس أيضًا- أسماهم الله تعالى بحزب الشيطان؛ بقوله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون} (22). إذًا مَصدَر الصيحة الإبليسية هو الأرض, ومُصدِرها هو إمّا ابليس, أو أحد شياطينه, أو أحد مواليهما من الإنس الكفرة. وما طرق أسماعنا اليوم من وجود مشروع ماسوني, يسمى بمشروع (الشعاع الأزرق -الهيلوغرافيا-), الذي عملت الجهات الصهيوأمريكية على انشائه منذ أكثر من عشر سنوات تقريبًا, ممكن أن يكون أبرز مصداقٍ لهذه الصيحة. وهذا المشروع "هو مشروع اصدار أصوات يسمعها جميع أهل الأرض, يخيّل للناس أنّه صادر من السماء, الهدف منه هو تشكيك الناس بعقائدهم, إلى أن يتخلوا عن أديانهم. ولعلّ الغرض الأسمى لهم هو التمهيد لهيمنتهم الدولية بقيادة المسيح الدّجال, الذي يرجون له" (23) ▪️المطلب الثاني: وقت الصيحة الإبليسية إنّ وقت هذه الصيحة هو آخر نهار اليوم الثالث والعشرون من شهر رمضان المبارك, الموافق يوم الجمعة. وتأتي هذه الصيحة كردّة فعلٍ على الصيحة الجبرائيلية –المشار إليها في المبحث الأول- أولاً وبالذات. وزمن الصيحة هذه يؤيد القول بأنّ مُصدِر الصيحة هم أناس كفرة, أتباع الشيطان؛ حيث إنّ الشياطين الجنيّة مغلولة الأيدي في شهر رمضان المبارك, فلا تستطيع الضر بالمؤمنين, لحكمةٍ من الله تعالى. إذًا هذا المطلب يكون تأييدًا للمطلب السابق, ففاعل الصيحة الإبليسية هو من فعل فاعل إنسي, كافر, ذي طباع وغايات إبليسية. ▪️المطلب الثالث: مضمون الصيحة الإبليسية إنّ مضمون الصيحة الكافرة هذه هو اتباع الخط المخالف لأهل البيت (عليهم السلام) المتمثل بالسفياني؛ حيث إنّه يخرج في شهر رجب, وتحصل الصيحة بعد شهرين من خروجه –في شهر رمضان كما علمنا في المطلب الثاني-. ولو لاحظنا الروايات لوجدناها تدرجت بتعريفنا بشخصية الشخص الذي يُصاح باسمه, فكانت على ثلاثة أصناف: 1- روايات مطلقة, منها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: فِي آخِرِ النَّهَارِ صَوْتُ المَلْعُونِ إِبْلِيسَ يُنَادِي: أَلا إِنَّ فُـلاناً قُتِلَ مَظْلُوماً، لِيُشَكِّكَ النّاسَ وَيَفْتِنَهُمْ، فَكَمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ مِنْ شَاكٍّ مُتَحَيِّرٍ قَدْ هَوى فِي النَّارِ... وَالصَّوْتُ الثَّانِي مِنَ الأَرْضِ، وَهُوَ صَوْتُ إِبْلِيسَ اللَعِينِ، يُنَادِي بِاسْمِ فُلانٍ أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُوماً، يُرِيدُ بِذَلِكَ الفِتْنَةَ، فَاتَّبِعُوا الصَّوْتَ الأَوَّلَ [الصيحة الجبرائيلية]، وَإِيَّاكُمْ وَالأَخِيرَ أَنْ تُفْتَنُوا بِه" (24), فلعلّ جواب الإمام كان مناسبًا لإدراك الشخص السائل, فكان مطلقًا, دون أن يشخّص له المصداق. 2- روايات أخرى مصرّحة باسم ذلك الشخص, وهو عثمان؛ روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "قلت: وكيف يكون النداء؟ قال: ينادي مناد من السماء أول النهار يسمعه كل قوم بألسنتهم: ألا أنّ الحق في علي وشيعته. ثم ينادي إبليس في آخر النهار من الأرض: ألا أنّ الحق في عثـمان وشيعته فعند ذلك يرتاب المبطلون" (25). ولو رجعنا إلى كتب اللغة لوجدنا معنى اسم عثمان هو "فرخ الثعبان، وقيل: فرخ الحية ما كانت، وكنية الثعبان أبو عثمان" (26), فمن خلال هذه الرواية نفهم أنّ عثمان المنادى باسمه هو عدو المنادى باسمه في الصيحة الجبرائيلية (قائم آل محمد عليه وعليهم السلام) وقد يُفهم أنّه عثمان بن عفان باعتباره الخط المعارض, حيث كان عثمان خليفة جائرًا, ولم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) راضيًا على حكمه, فعندما قتل عثمان اتّهم أتباعه الإمام علي (عليه السلام), "فلعلّ الصيحة الإبليسية تريد اثارة الفتنة بين أتباع علي (عليه السلام) –ومن ضمنهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ومن آمن بالصيحة الجبرائيلية وبين أتباع عثمان" (27) 3- روايات مصرّحة بنسب ذلك الشخص المصاح باسمه, وهو سفياني اللقب والمنهج, روي عن الصادق (عليه السلام): "...ثم ينادي ابليس في آخر النهار: ألا إن الحق مع الـسفياني وشيعته فيرتاب عند ذلك المبطلون." (28) يذكر أنّ شخص السفياني قد أوضحه الإمام السجاد (عليه السلام) فقال: "هو من ولد عتبة بن أبي سفيان" (29), ولا يخفى عداء الأمويين للعلويين, وقد بيّن لنا الإمام الصادق (عليه السلام) جذور ذلك العداء بقوله: "إنّا وآل أبي سفيان أهلُ بيتين تعادينا في الله، قُلنا: صَدَق الله، وقالوا: كَذَب الله، قاتل أبو سفيان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقاتل معاوية عليَّ بن أبي طالب، وقاتل يزيدُ بنُ معاوية الحسين بن علي عليه السلام، والسفياني يقاتل القائم" (30), فثبت بذلك أنّ المصاح باسمه هو عدو قائم آل محمد (عليهم السلام) والجمع بين الثانية والثالثة يكون بأن المقصود من هذه الأسماء هي الإشارة إلى الخط المخالف لأهل البيت (عليهم السلام) كما تقدم. هدف الصيحة الإبليسية، ونفي إعجازها. يأتي لاحقًا إن شاء الله تعالى. ________________ (18) سورة الشعراء: 95. (19) سورة مريم: 83. (20) الميزان في تفسير القرآن: للسيد محمد حسين الطباطبائي, ج14, ص109. (21) ظ: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي, ج9, ص503. (22) سورة المجادلة: 19. (23) ظ: حقيقة مشروع الشعاع الأزرق ( الهيلوغرافيا ): للكاتب أحمد سيف الدين سكاف. (24) الغيبة: للنعماني: ص262, ب14, ح13. (25) الغيبة: للشيخ الطوسي, ص435. (26) لسان العرب: لابن منظور, ح12, ص385. (27) مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام), الأسئلة والأجوبة المهدوية, س127. (28) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج52, ص206. (29) الغيبة: للشيخ الطوسي, ص444. ح437. (30) معاني الأخبار: للشيخ الصدوق, ص346, ح1.

دراسات مهدوية
منذ 5 سنوات
3342

مــسائل خَـمس فـي العقيـدةِ المـهدويّة (ح1/ نــزولُ عِيسَى النَبيّ مِن السماء)

بقلم: علوية الحسيني تَمـهيدٌ في المسائِل بسـمِ اللهِ الرحمَنِ الرحِيمِ الحَمْدُ للهِ المُتفرّدِ بالأزَلِ والأبدِ، والصَلاةُ عَلى أوّلِ العَدَدِ وخَاتَمِ الأمَدِ مُحَمّدٍ وآلِه، الذين لا يُقَاسُ بِهم مِن الخَلْقِ أحَد. قَالَ اللهُ (تَعَالى): (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[القصص 5]. لاشَكَّ ولاريبَ أنَّ وراثةَ الأرضِ لا تكونُ إلاّ لأولياءِ اللهِ، والأئِمَةِ المُصْطَفَين الصَالِحِين، الذين كتبَ اللهُ لهُم ذَلكَ، كمَا في قوله (تعالى): (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ)(1)؛ ليُؤدّوا وظيفَتَهم المُبتغَاة مِنهم بِحكمِ اللُّطفِ الإلهيّ بِنا، وتمثُّله بِهم واقعًا وظُهورًا، إذ هُم مَن يهدونَ بأمرِ اللهِ، ويُقَرّبونَ النّاسَ مِن الطّاعاتِ، ويُبعدونَهم عن المعاصي، ويَأخذون بِأيدِهم إلى الخَيراتِ، ولِلَتي هِي أحسَن (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(2). وعلَى أساسِ ذلك لا بُدَّ مِن تَسليطِ الضوءِ على مَسائلٍ عقديّةٍ مُهمّةٍ، قد وَرَدَ ذِكرُهَا فِي المجاميعِ الروائيةِ الخاصَّةِ والعامّةِ، ولها ارتباطٌ وثيقٌ بعقيدتِنا فِي الإمَامِ المَهدي (عليه السلام) وظُهورِه وقيامِهِ بالحَقِّ، وهي تُسهمُ في تكوينِ رؤيةٍ مُستقبليّةٍ عَمّا سَيحدثُ مِن وقائِعَ عالميّةٍ, تَطالُ بآثارهِا التغيير، وخاصةً في المُنتظَمِ الدّيني السماوي والاجتماعِي، والاقتصادِي، والأخلاقِي، بل وحتى الحضارِي، ومنها على سَبيل المثالِ والبحثِ: نُزولُ السيّدِ المَسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) مِن السماءِ، وهذا بِحَدِّ ذَاتِه حَدَثٌ عَظيمٌ يَتعَاضَدُ بوقوعِه مع ظهورِ وقيامِ إمامِنَا المَهدي في العَالمين، من حيثِ التأييدِ له، والصلاةِ خَلفه، والدعوةِ معه إلى الإسلامِ العزيزِ، عقيدةً ودينًا، والحقِّ والهدايةِ والعدلِ، وَفضِ الكفرِ، والباطلِ والضلالة والظلمِ، وقد حكَى اللهُ (تعالى) ذلك في القُرآنِ الكَريمِ، ووعدَ به لِزامًا، كَمَا في قَولِه (تَعَالى): (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا* بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)(3). وفي مَعنى الآيةِ الأخيرةِ وتفسيرها ذَكَرَ الشيخُ الطبرسي في تَفسيرِه – مَجمَع البَيانِ – مَا نَصّه: "أي: ليس يبقى أحَدٌ مِن أهلِ الكتابِ، مِن اليهودِ والنَصارى، إلاّ ويُؤمنن بالمَسيحِ قبل مَوت المَسيح، إذا أنزله اللهُ إلى الأرضِ وَقتَ خُروجِ المَهدي، في آخرِ الزَمَانِ لِقَتْلِ الدّجَالِ، فَتصيرُ المِلَلُ كُلّها ملّةً واحِدةً، وهي مِلّةُ الإسلامِ الحنيفية، دينُ إبراهيم، عن ابن عباس، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، وابن زيد، وذلك حين لا ينفعهم الإيمان. واختاره الطبري. قال: والآيةُ خاصةٌ لِمَن يكونُ منهم في ذلك الزمان"(4). و تكاثرت الأحَاديثُ المُعتبَرَةُ فِي نِزولِه (عليه السَلامُ) في آخِرِ هذهِ الأمةِ، وأنّه يُكَسِّرُ الصِليبَ، ويَضَعُ الجِزيَةَ، (رَوى الحُسَين بن مَسعود في شَرحِ السنّةِ، بإسناده عَن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قَاَل: والذي نفسي بيده لَــيوشَكن أنْ يَنزلَ فيكم ابن مَريم، حَكَمًا عَدْلًا, يُكَسّرُ الصَليبَ ويَقتلُ الخنزيرَ ويَضَعُ الجزيةَ، فَيفيضُ المَاَلَ حتى لا يَقبلَه أحَدٌ"(5) . وإنَّ نزولَ السَيّد المَسيح عيسى بن مريم (سلام الله عليهما) هو أمرٌ مُتفقٌ عليه ومَشهورٌ عند عُلماءِ المُسلمين كافةً، ويكونُ خُروجُه في آخرِ الزمانِ مع الإمام المَهدي (عليه السلامُ)، وقد بَيّنَ المُحدِّثُ الشيخُ حُسين الطبرسي النوري في كتابِه – النجم الثاقب – اعتقادَ عُلَماءِ المُسلمين في شأنِ النبي عيسى (عليه السَلامُ) وقال: "المَشهورُ بين علماءِ الخاصةِ والعامةِ بقاؤه (عليه السلام) في السَمَاءِ حَيًا بحياةِ الأرضِ، وقد رُفِعَ حَيًا إلى الَسَمَاءِ، ولم يَمُت ولا يَموتُ إلى آخرِ الزَمانِ، فينزلُ ويُصلّي خَلفَ المَهدي (صلواتُ اللهِ عليه) ويكونُ وزيرَه، والأخبارُ في ذلك كثيرةٌ "(6) . ومِن المَسائلِ العقديّةِ الجَديرةِ بالبحثِ والمُثيرةِ للجدلِ والاختلافِ الكبيرِ، هي مَسألةُ الدّجالِ، وهل هو شَخصٌ أو حركةٌ، وما مدى صحةُ الرواياتِ الكثيرةِ فِي هذه المَسأَلةِ، وهَل ثَمَةَ اختلافٌ في الرواياتِ في شَخص الدّجال ومواصفاته، ومَصيره ومَقتَله، فرواياتٌ تَذكر أنَّ النبي عيسى (عليه السلامُ) هو مَن سَيقتله، ورواياتٌ أخرى تَذكِرُ أنَّ الإمام المَهدي (عليه السَلامُ) هو مَن سَــيقتله. وفي شأنِ ذلكَ تعّرضَ الشيخ علي الكوراني إلى هذه المسألةِ، بحثًا و تحقيقًا فذكرَ رأيه: "يختلفُ التصورُ الذي تُقدّمه الأحاديثُ الواردةُ في مَصادرِنا الشيعية عن الدّجالِ وحركته، عن التصور الذي تُقَدّمه الأحاديثُ الواردةُ في المَصادرِ السنيّة ببعضِ الأمورِ، منها: خُلو أحاديثنا مِن أكثرِ العناصرِ التصويرية المُتقدّمَة، ومنها: أنَّ حركةَ الدّجالِ فيها ليست حادثًا ابتدائيًا، بل هي حركةٌ مُضادةٌ لثورةِ الإمَامِ المَهدي الشاملةِ، وقوامُ هذه الحركةِ المُضادِة لليهودُ والمنافقين من الدّاخِلِ، الذين يتصفون بدرجةٍ خاصةٍ مِن العِدَاءِ للإمَامِ المَهدي وأهل البيتِ (عليهم السَلامُ), ومنها: أنَّ الذي يَقتلُ الدّجالَ هو الإمامُ المَهدي وليس عيسى"(7). وهل هو عَلامةٌ مِن علاماتِ ظهورِ الإمَامِ المَهدي (عليه السلامُ) أو أنّه مِن أشراطِ السَاعةِ، كما هو عند العامّةِ، فقد أورَدَ هذا المَعنى الاعتقادي ابن حجر في كتابه –فتحُ البارِي -: "قَالَ الطيبي الآياتُ أماراتُ للساعةِ إما على قربها وإما على حصولها فَمِن الأولِّ الدّجالُ، ونزولُ عيسى ويأجوج ومأجوج والخَسف، فالذي يترجحُ مِن مجموعِ الأخبارِ أنَّ خروجَ الدّجالِ أولُّ الآياتِ العِظامِ المُؤذنة بتغيرِ الأحوالِ العامةِ في مُعظمِ الأرضِ، وينتهي ذلك بموتِ عيسى بن مريم"(8). وأنّه هو مَسيحُ ضَلاَلَةٍ بعنوانِ المَأثورِ الروائي عند العامّةِ، - فتنةُ الدّجالِ أو المَسيحُ الدّجال عند العامةِ - ذَكَرَ النووي ذلك في شَرحِه لصَحيحِ مُسْلِم : "وأمّا الدّجَالُ فقيلَ سُمِيَ بذلك؛ لأنّه مَمسوحُ العَين، وقيل لأنّه أعورٌ والأعورُ يُسمى مَسيحًا، وقيل لِمَسحه الأرضَ حين خُروجِه، وقيل غير ذلك، قال القاضي ولا خِلاف عند أحَدٍ مِن الرواةِ في اسمِ عيسى أنّه بفتحِ المِيم وكَسرِ السِين مُخففةً، واختُلِفُ في الدّجَالِ، فأكثرهم يقوله مِثله، ولا فرق بينهما في اللفظِ، ولكن عيسى (على رسولنا وآله وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام) مَسيحُ هُدىٍ، والدّجالُ مَسيحُ ضَلالةٍ"(9). وإنَّ أغلبَ الرواياتِ التي ذكرت الدّجال بوصفه شخصًا، أو فتنةً، جَاءَتِ عن طريق أبي هريرة - الوضّاع-، وكذلك عن طريق عِكرِمَةِ بن أبي جَهل وهو مِن الوضّاعين والكذّابين أيضًا. فــضلًا عن الرواياتِ المُرسلةِ غير المُسندةِ، مما يضعنا أمامَ خَيارِ التحقيقِ والتدقيقِ في مَوضوعة الدّجالِ، والتي مازجتها الإسرائيلياتُ بكثرةٍ واضحةٍ وظاهرةٍ للباحثِ والمُدَقّقِ، وقد أخذَ العَامّةُ أوصافَه مِن المَنامِ عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم )قال: "أراني الليلةَ عند الكعبة فرأيتُ رجلًا آدم كأحسنِ مَا أنتَ راءٍ مِن أدمِ الرجالِ، له لمةٌ كأحسنِ مِا أنتَ راءٍ مِن اللمَمِ، قد رجلها فهي تَقطرُ مَاءً، مُتكئًا على رجلين، أو على عواتقِ رجلين يَطوفُ بالكعبةِ، فَسألتُ : مَن هذا؟ قيل: هذا المَسيحُ بن مريم، ثم إذا أنا برجلٍ جَعدٍ قططٍ، أعورِ العَين اليُمنى، كأنّها عنبةٌ طافيةٌ، فَسَألتُ: مَن هذا؟ فقيل لي: هذا المَسيحُ الدّجَالُ"(10). ووقعَ الخَلطُ الكبيرُ في الرواياتِ المأثورةِ بخصوصِ الدّجالِ، بوصفه شخصًا أو حَرَكةً، أو عَلامةً للظهورِ الشريف، أو شرطًا من أشراطِ الساعة. فمُعظَمُ الرواياتِ المأثورةِ والتي عَرضتْ لِسَردِ مَوضوع الدّجالِ، (شخصًا، أو رمزًا) وبصورةٍ مَشوشةٍ ومُشابهةٍ بقدرٍ كبيرٍ للفكر اليهودي والإسرائيلي لدرجةٍ لا يُمكِنُ القبولُ بها دلالةً وتنظيرًا دون تحقيقٍ وهي مَحلُ بَحثٍ وتَأملٍ. وقد تَصَدّى سماحةُ الشيخ جعفر السبحاني لتوضيح ذلك في كتابه القيّم -الحديث النبوي بين الرواية والدراية - فَذَكَرَ مَا نصّه: "أخرجَ البخاري، عن عقبة بن عمر، عن حذيفة، أنّه سأله وقال: ألا تحدثنا ما سَمِعْتَ مِن رسولِ اللّهِ (صلى الله عليه وآله) قال: إنّي سمعته يقول: إنَّ مع الدّجَالِ إذا خَرجَ ماءً ونارًا، فأمّا الذي يرى الناس أنّها النار فماء بارد، وأمّا الذي يرى الناس أنّه ماءٌ باردٌ، فنارٌ تحرق، فمن أدرك منكم فليقع في الذي يرى أنّها نار، فإنّها عذبٌ بارد, أقول: إنَّ الروايةَ مهما صَحّ سندها فهي من الاِسرائيلياتِ، التي لا يُقامُ لها وزنٌ، حتى أنّ البخاري ذكرها في بابٍ تحتَ عنوانِ مَا ذُكِرَ عن بني إسرائيل, وإنْ ذَكرَها في كتابِ الفِتنِ مِن الجزءِ التاسع بصورةٍ مُوجزةٍ. وذلك أوّلًا: إنّ تزويدَ الدّجال بهذه المَعاجز يؤَدي إلى إضلالِ الناس، والغايةُ من خِلقةِ الاِنسان هي الهدايةُ لا الضلالةُ. وثانيًا: إنّ اختلافَ المَرئي في نَظَرِ الرائي رهنُ كون الدّجالِ ساحرًا، ويُخيِّل الشَيء بصورةِ عكسه، وهذا أيضًا من أسبابِ الضلال، فلماذا سلطه (سبحانه) على العِبَادِ. وأمّا تفسيرُ ابن حجر وقوله: يجعل اللّهُ باطِنَ الجنّةِ التي يُسخرها الدّجالُ نارًا وباطِنَ النارِ جنّةً، فهو تفسيرٌ بــعيدٌ لا يُحملُ عليه كلامُ أصحابِ البلاغةِ، فالحَقّ أنّ أكثر ما وردَ حول الدّجالِ إسرائيلياتٌ، لا يُذعنُ بها العقلُ الحَصيفُ، ولا يُظنُ لعاقلِ أنْ يُصدّقه، وإنْ كان أصلُ ظهور الدّجال في آخرِ الزَمانِ أمرًا مُسلّمًا بين المُسلمين"(11). وعـلى فَـرضِ صحَةِ الاعتقادِ جَزمًا بظهورِ الدجّال في وقتِ ظهورِ وقيامِ الإمَامِ المَهدي (عليه السَلامُ)، أو عقيبِ دولته وقُبيل قيامِ السَاعَةِ على مَبنى العامة، فإنّه سـيُسهمُ بقدرٍ كبيرٍ في إضلالِ الناسِ، وبأفانين تُناسبُ عَصره، مِمّا يَتولّدُ من ذلك حَركةٌ أو تيارٌ يَنتشرُ بسرعةٍ، وله تأثيره البليغ في دينِ الناسِ، وسلوكهم، ومصيرهم، بحسبِ مَقاصِدِ الرواياتِ، التي ذَكَرَتْ وقائعَه - الصَحيحُ منها عند العامة أو الضعيفُ عندنا – الخاصة-، وهناك قرائنُ لفظيةٌ صَاحبَتْ ذِكرَ الدّجَالِ في الرواياتِ، بحيث قد تُفيدُ بأنّه شخصٌ يُؤسِّس لحركةٍ ضًالةٍ ومُضلة. ومنها أنّه يَهربُ مِن مُلاحقَةِ النبي عيسى - عليه السلام- له عند العامة، كما في مَأثورِهم: "فإذا نَظرَ إليه الدّجَالُ ذابَ كَمَا يذوبُ المِلحُ في المَاءِ, ويَنطَلِقُ هَارِبًا ويقولُ عيسى (عليه السَلامُ): إنَّ لِي فيكَ ضربةً لن تسبقني بها، فيدركه عند بابِ اللدّ الشرقي فيقتله، فيهزمُ اللهُ اليهودَ"(12). أو مُلاحقةِ الإمَامِ المَهدي عليه السلام له عندنا- الخاصة - فيقتله. هذا فضلًا عن ورودِ أسماءٍ وأوصافٍ خاصةٍ له غير تلك التي تَخرقُ العادةَ بحسب زَعم رواةِ السنّة. وحتى يَكونَ المُتلَقي والقَارئُ على دِرَايةٍ -ولـو بوجهٍ مـا- بهذه المَسائلِ العَقدِيّةِ سَنَشرَعُ في بيانِهَا وتحليلها للخروجِ بمُعطياتٍ مَعرفيّة، تنفعنا في العقيدةِ المَهدويّةِ الحَقّةِ، سائلين اللهَ السدادَ والتوفيقَ، هو نِعْمَ المَولَى ونِعْمَ النَصيرِ. ويَتناولُ هذا البَحثُ مَسائِلَ خَمسَةً ضمن مَطالب عدّة: أولها: في نـــزولِ عِيسى النبي (عليه السلام) مِن السماء. وثانيها: في التعريفِ بشخصيّة الدّجّال. وثالثها: في حَرَكةِ الدّجّال وإماطةِ اللثامِ عن ماهيّته. ورابعها: في نهايةِ الدّجالِ سواءٌ أكانَ شخصيّةً حقيقيّةً أم حَركةً. وخامسها: في كيفيـّـة انتـشارِ الإسـلامِ في الدّولِ الغربيّةِ في زمنِ الإمامِ المَهْدي. ________________ (1) الأنبياء: 105-106. (2) الأنبياء:72. (3) الأنبياء: 157-159. (4) مَجمَعُ البيانِ في تفسيرِ القُرآنِ، الشيخُ الطبرسي، ج3، ص236، منشورات مؤسسة الأعلمي، ط1، 1415هـ. (5) بحارُ الأنوار، المَجلسي، ج52، ص383,ط3, بيروت ,1403هـ. (6) النجم الثاقب في أحوال الإمام الحجّة الغائب ( عج )، تأليف خاتمة المحدثين آية الله الشيخ حسين الطبرسي النوري ج2، ص350، إعداد مركز الأبحاث العقائدية. (7) مُعجمُ أحاديث المهدي، الشيخ علي الكوراني، ج2، ص127، نشر : مؤسسة المعارف الاسلامية،ط1، 1411 ه‍ . (8) فتح الباري شرح صحيح البخاري، شهاب الدين ابن حجر العسقلاني، ج11، ص303، ط بيروت. (9) شرحُ صحيح مُسلِمِ، النووي، ج2، ص234، دار الكتاب العربي بيروت – لبنان 1407 ه‍. (10) الموطأ لمالك بن انس، الشافعي، ج2، ص920، دار احياء التراث العربي، بيروت لبنان 1406 ه‍. (11) الحديث النبوي بين الرواية والدراية، الشيخ جعفر السبحاني، ص174,173. (12) سُنن ابن ماجة، ج2، ص1362، دار الفكر.

اخرى
منذ 5 سنوات
1356

التعليقات

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 7 سنوات
84125

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 6 سنوات
62903

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 7 سنوات
55205

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 6 سنوات
48172

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 7 سنوات
46753

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 7 سنوات
35373