تشغيل الوضع الليلي

حـــجُّ الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه الشريف)

منذ 6 سنوات عدد المشاهدات : 5867

بقلم: علوية الحسيني
إنّ الاعتقاد بأنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) حيٌّ أمرٌ مفروغ منه في عقيدتنا والدليل عليه جزمي! وبالتالي يثبت له جميع ما يثبت للأحياء -وإن كان غائبًا عن ان نعرفه، لحكمةٍ إلهية- فله ما لنا من حقوق, وعليه ما علينا من التزامات, مع فارقٍ جوهري في الأفضلية له, كونه أتقى وأنقى وأشرف وأكمل من سائر العباد اليوم؛ فعقيدتا في الأئمة "أنَّهم بشر مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وإنما هم عباد مكرمون، اختصّهم الله تعالى بكرامته، وحباهم بولايته"(1). وعليه ينعقد الكلام حول هذا الموضوع ضمن النقاط التالية:

■النقطة الأولى: الحجُ مفروضٌ على جميع العباد ومنهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف):
من الالتزامات المفروضة على العباد هو الحج, ذلك الفرض الثابت في الكتاب والسنة القطعية, ولا يخفى أنّه أحد فروع الدّين, فأوجبه الله تعالى على عباده جميعًا حال توفر شرائطه؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ}(2). فظهور الآية الكريمة واضح في وجوب الحج على المستطيع, ولا قرينة صارفة من الوجوب إلى الاستحباب, بل نجد أنّه تعالى ذيّل الآية نفسها بأن التدارك للحج كافر.
وبما أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) نفرٌ من الناس – وهذه عقيدتنا به كما أسلفنا، واختلفنا عن الغلاة- فيجب عليه الحج مع توفر الشرائط.
كما وأنّ الإمام الصادق (عليه السلام) روي عنه تأكيده على هذه الفريضة المقدسة, ناعتًا تاركها باليهودي أو النصراني؛ روي "عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: من مات ولم يحجّ حجّة الاسلام، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهودياً أو نصرانيا" (3).
إذًا فلا يمكننا القول بأنّه (عجّل الله فرجه الشريف) يكفر بالحج, ولم يذهب إليه -مع فرض تحقق الاستطاعة-, أو أنّه طيلة حياته لم يحج بيت الله الحرام, بزعم كونه غائبًا؛ إذ هذا مدفوع بأمور عديدة, منها: تفضيل الله تعالى له "كإمام منصًّب إلهيًا, مفترض الطاعة"(4)،
ومنها: إنّ عقيدتنا بالأئمة (عليهم السلام) عمومًا أنّهم "في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم، والتقوى، والشجاعة، والكرم، والعفّة، وجميع الاَخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، لا يدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به"(5), فإذا كانوا لا يدانيهم بشر في طاعة الله تعالى ومكارم الأخلاق, فكيف يمكن فرض احتمال كفر أحدهم بفرعٍ من فروع الدّين؟!

■النقطة الثانية: كيفية الجمع بين حجّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) وغًيبته:
إنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروضٌ عليه الحج -مع توفر شروط الحج- كسائر التكاليف الشرعية, فيجب عليه تأديته, وهذا كافٍ للرد على من آمن بالغَيبة على أنّها انزواء الإمام في بقعة من بقاع الأرض.
بل، ولو سلّمنا جدلاً بأنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) منزوٍ في أرض مكة المكرمة, فمجرّد أدائه لمناسك الحج ينافي المعنى اللغوي للانزواء, سواء أكان الانزواء بمعنى الاعتزال عن الناس, أو كان بمعنى اللبث في زاوية مكانٍ معيّن.
*فأمّا الأول فمدفوع بما رواه الشيخ الصدوق, والشيخ الطوسي, عن محمد بن عثمان العمري، أنّه قال: "واللهِ إنّ صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كلّ سنة، فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه"(6), ففي الحديث دلالة على اختلاط الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) بالناس, ودحض شبهة اعتزاله.
*وأما الثاني فمدفوع بما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "في القائم سُنّة من موسى، وسنّة من يوسف، وسنّة من عيسى، وسنّة من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فأمّا سنّة موسى فخائف يترقّب، وأمّا سنّة يوسف فإن اخوته كانوا يُبايعونه ويُخاطبونه ولا يعرفونه..."(7), ففي الحديث دلالة عرفية تفيد أنّ الخائف المترقب متنقل بين مكانٍ وآخر؛ خوفًا من عثور أعدائه عليه, والتنقل غير اللبث في مكانٍ معيّن, فدحضت شبهة الانزواء.

ومن هذا نستنتج وجوب تنقله (عجّل الله فرجه الشريف) في بقاع الأرض, وعلى فرض تنقله فإنّه يؤدي ما عليه من واجبات إلهية, ومنها فريضة الحج.

يذكر إنّ حضور الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) في موسم الحج في زمن غيبته هو أحد انجازاته قبل ظهوره المعلن, وحضوره ذلك يكون طبيعيًّا, لا يحتاج إلى اعجازٍ, نعم لا يضر اثبات حضوره الحج عدم معرفته, بعد أن أثبتنا وجوب تنقله في بقاع الأرض "روى الصدوق, عن عبيد بن زرارة, قال: سمعتُ أبا عبد الله يقول: يفقد الناس إمامهم، فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه"(8).

■النقطة الثالثة: شخص الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) تحت ضوء شرائط الحج:
للحج شرائط لابد من توفرها(9) حتى يكون منجّزًا في ذمة المكلّف, فعلى فرض توفرها في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ووجوب الحج عليه نسردها مع بعض التفاصيل:
1- البلوغ
إنّ الكلام في بلوغ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروغٌ منه, إذ يذكر لنا التاريخ أنّه عجل الله تعالى فرجه ولد سنة 255 للهجرة.

2/ العقل
كما إنّ الكلام في سلامة عقل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) من الجنون بكافة أقسامه نافلة من القول؛ فعقيدتنا في الأئمة أن يكونوا متصفين بأكمل الصفات الخلقية والعقلية؛ حتى توجب التفاف الناس حولهم, ومن ثم التمكن من هدايتهم.

3- الحرية
وأيضًا الكلام في حرية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروغ منه؛ إذ ليس من صفات الأئمة (عليهم السلام) أن يكونوا عبيدًا لغيرهم, ثم يعتقون حتى يصبحوا أحرارا, بل هم أحرار أسياد.

4- الاستطاعة
ويعتبر في هذا الشرط أمور، منها:
الأول: السعة في الوقت
أي أن يسع الوقت للذهاب إلى بيت الله الحرام من مسكن الحاج فيستطيع أن يصل في الوقت المناسب, وهذا شرط من السهل توافره في حجّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ كيف لا, والأرض تطوى له فيصل إلى أي بقعة من بقاع الأرض متى ما شاء, بإذن الله القادر المختار؛ روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "القائم منصور بالرعب مؤيد بالنصر، تطوى له الأرض وتظهر له الكنوز ، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب ، ويظهر الله عزوجل به دينه ولو كره المشركون..."(10), فالرواية وإن كان ظاهرها يتكلم عن زمن الظهور, إلاّ أنّه لا يستبعد ثبوت طي الأرض للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) في زمن غيبته, وذلك يرجع إلى قدرة الله تعالى الواسعة.
إذًا بمجرد طي الأرض له (عجّل الله فرجه الشريف) يصل إلى مكة المكرمة, ويؤدي حجّه, هذا على فرض وجود الإمام في أرضٍ غير أرض مكة, وقد يؤيد هذا الفرض ما جاء في دعاء الندبة: "لَيْتَ شِعْري اَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوى، بَلْ اَيُّ اَرْض تُقِلُّكَ اَوْ ثَرى؟".
وأما على فرض وجوده في أرض مكة فمن بابٍ أولى أنّه سيكون له سعة من الوقت للوصول إلى الحرم المكي وأداء مناسك حجّه.
وقد يؤيد هذا الفرض ما جاء في دعاء الندبة: "اَ بِرَضْوى اَوْ غَيْرِها اَمْ ذي طُوى؟" رضوى: "هو جبل على مسيرة يوم من ينبع وعلى سبع مراحل من المدينة" (11). "ميامنه طريق مكة ومياسره طريق البريراء لمن كان مصعدا الى مكة"(12).
أمّا ذو طوى: "فهو موضع بمكة المكرمة داخل الحرم هو من مكة على نحو من فرسخ ترى بيوت مكة منه، قال في (المصباح) ويعرف بالزاهر في طريق التنعيم، وفي (القاموس) ذي طوى، موضع قرب مكة"(13).

الثاني: صحّة البدن وقوّته
أي أنّ الحاج يجب أن لا يكون سقيمًا, هزيلاً, فيمتنع عليه أداء مناسك الحج, وهذا شرط من المفروغ ثبوته في جسد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) " قال أبو عبد الله عليه السلام: القوة القائم عليه السلام والركن الشديد ثلاثمائة وثلاثة عشر"(14).

الثالث: تخلية السرب
ويقصد بها أن يكون الطريق مفتوحاً ومأموناً، فلا يكون فيه مانع لا يمكن معه من الوصول إلى الميقات أو إلى الأراضي المقدّسة، وكذا لا يكون خطراً على النفس أو المال أو العرض، وإلاّ لم يجب الحجّ .
والإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) لا موانع تقف بينه وبين حضوره لأي مكان؛ وفقًا للمشيئة والقدرة الإلهية.

الرابع: النفقة، ويعبّر عنها بالزاد والراحلة
ويقصد بالزاد: كلّ ما يحتاج إليه في سفره من المأكول والمشروب وغيرهما من ضروريات ذلك السفر، ويراد بالراحلة: الوسيلة النقليّة التي يستعان بها في قطع المسافة، ويعتبر فيهما أن يكونا ممّا يليق بحال المكلّف.
فأما زاد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) فلم تنص عليه الروايات, إلاّ أننا ممكن أن نثبته من خلال القول بأنّه راجع إلى اعتقادنا في الأئمة (عليهم السلام) بأنّهم بشرٌ مثلنا يجوعون ويعطشون, فيكون من البديهي توفره.
وأمّا راحلته فغيب, كلّ ما علينا هو الإيمان بتوفرها مهما كان نوعها.

الخامس: الرجوع إلى الكفاية، وهو التمكن بالفعل أو بالقوّة من إعاشة نفسه وعائلته بعد الرجوع إذا خرج إلى الحجّ وصرف ما عنده في نفقته، بحيث لا يحتاج إلى التكفّف ولا يقع في الشدّة والحرج.
وهذا الشرط منوط بالعلم الغيبي؛ وإذا تكفّل الله تعالى وليّه (عجّل الله فرجه الشريف) فليس لدينا سوى الإيمان بمجمل الأمر, دون الخوض في تفاصيله, مع الانتباه إلى أنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) لا دليل جزميا على انه متزوج حتى يشمله الشرط بحذافيره –من المأمن على مصرف عيال الحاج-.
ومع احتمال عمل الإمام وتكسبه للمعيشة يتحقق هذا الشرط؛ استنادًا إلى سيرة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) بتكسبهم للمعيشة, وليس عملهم انتقاصًا من مكانتهم؛ إذ فيهم الراعي للأغنام, والحداد, والنجار, وما شابه ذلك من المهن.


■النقطة الرابعة: سؤالٌ وجواب:
قد يطرح البعض سؤالاً مفاده: إذا كان الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) قد حجّ الحج الواجب عند توفر الشرائط, فلماذا يشهد موسم الحج كلّ عام؟

وجوابه: هنالك روايتان تنصان على تواجد الامام سابقا في الكعبة دون التصريح بأنّ وجوده هناك كان للحج الواجب, كما "روى الشيخ الصدوق, عن الحميري, أنّه قال: سألت محمد بن عثمان العمري، فقلت له: أرأيتَ صاحب هذا الأمر؟ فقال: نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: اللهم أنجِزْ لي ما وعدتَني"(15)، فدعاء الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) عند بيت الله الحرام لا يخلو من احتمال وجوده لأداء الحج الواجب.
ورواية اخرى بنفس المفاد إلاّ أنّ المسموع من دعائه (عجّل الله فرجه الشريف) هو دعاء آخر, وعند ركنٍ محدد, "روى الشيخ الصدوق, عن الحميري, أنّه قال: سمعتُ محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه يقول: رأيتُه صلوات الله عليه متعلّقاً بأستار الكعبة في المستجار، وهو يقول: اللهم انتقِم لي من أعدائي".(16)، وعلى فرض تعدد مرات رؤيته عند بيت الله الحرام تنبثق احتمالية أدائه (عجّل الله فرجه الشريف) لفريضة الحج الواجب في أحدها.
وفي مقام الجواب عن سبب شهوده موسم الحج كلّ عام مع فرض أدئه للحج الواجب في سنة من سنوات غيبته (عجّل الله فرجه الشريف) نحتمل عدّة أقوال:
1- إنّ الحج يجب على المكلف مرّة واحدة, وإذا تكرر أداء المناسك من الحاج في مواسم اخرى فهذا أمرٌ مستحب, فيسمى حجّه مستحبًا, وبما أنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) أكمل العباد مطلقًا, وأداء المستحب من الكمال, فينبغي للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الرشيف) أن يفعل المستحب, فيحجّ الحج المستحب, ويشهد الموسم كلّ عام.

2- لا ينكر عاقل أنّ الإنسان إذا عاش بين الناس ومنهم ظالمي حقه, ويتمكن من أخذ حقه منهم, إلاّ أنّه يقف مكتوف الأيدي؛ إيمانًا بالمشيئة الإلهية التي لم تشأ بعد بإعلان ظهوره هو أمرٌ صعبٌ للغاية, يحتاج إلى صبرٍ خاص, فوجد الله تعالى وليّه (عجّل الله فرجه الشريف) صابرًا على الغيبة, فمنحه كرامة الحضور في كلّ موسمٍ من مواسم الحج, التي تخفف على العبد البلايا والرزايا, وتجعل العبد يعيش حالة التسليم المطلق لما جرى عليه وما يجري وما سيجري.

3. على أن من الثابت استحباب تكرار الحج ما استطاع اليه المكلف سبيلا
___________________
(1) عقائد الامامية: للشيخ محمد رضا المظفر, ص85.
(2) آل عمران: 97.
(3) من لا يحضره الفقيه: للشيخ الصدوق, ج2, باب تسويف الحج, ح 2935.
(4) ظ: حديث السلسلة الذهبية.
(5) مصدر سابق, ص85.
(6) كمال الدين: للشيخ الصدوق, ج2, ص440, ح8.
الغيبة: للشيخ للطوسي, ص221.
(7) المصدر السابق, ج1, ص28.
(8) المصدر السابق, ج2, ص440, ح7.
(9) مناسك الحج وملحقاتها: للسيد السيستاني, ف1, شرائط وجوب حجة الإسلام.
(10) إثبات الهداة: للحر العاملي, ج3, ص570, ب32, ف44, ح686.
(11) معجم البلدان: لياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي,ج3, ص51.
(12) مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام.
(13) مجمع البحرين: للشيخ فخرالدين الطريحي, ج3, ص97.
(14) تفسير القمّي: لعلي بن إبراهيم القمي, ج 1, ص 336.
(15) كمال الدين: للشيخ الصدوق, ص440, ح9.
(16) المصدر نفسه, ح10.

اللّهمَّ إني أسألك أن تُريني وليَّ أمرك ظاهراً نافذاً لأمرك مع علمي بأنَّ لك السلطان والقدرة والبرهان والحجَّة والمشيئة والارادة والحول والقوة.

اخترنا لكم

الأبعاد العقائدية في أدعية السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) دعاء طلب تفريج الهموم والغموم نموذجًا

بقلم: دينا فؤاد الحلقة الأولى المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الغر الميامين. أما بعد... من المعلوم أن الكلام عن دعاء السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) يعني الكلام الذي تضمن واشتمل على معانٍ عظيمة للمرأة التي احتلت لقب سيدة النساء للعالمين من الأولين والأخرين، فقد كانت الزهراء (عليها السلام) الجوهرة التي صيغت شخصيتها وصقلت في بيت النبوة والإمامة، في البيوت التي ذكرها الله تعالى بقوله: {في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فيها اسمُهُ يُسَبِّحُ فيها بالغُدُوِّ وَالآصَالِ}. (1) وسنحاول من خلال هذا البحث الموسوم بـ (الأبعاد العقائدية في أدعية الزهراء (عليها السلام) دعاء طلب تفريج الهموم والغموم نموذجاً) بيان جملة من الأبعاد العقائدية في هذا الدعاء الذي دعت به المحور والقطب الجامع لرحى النبوة والإمامة، حيث أن له من الأهمية المغيبة عن الأنظار، وليست الأهمية في هذا الدعاء فقط، بل في كل دعاء وخطبة صدحت بها حنجرة البضعة الطاهرة للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فالدعاء لم يكن مجرد كلام لغوي ينطق، وإنما هو عبائر ومداليل لها أبعاد ومصاديق مقصودة. وقد تناول هذا البحث دراسة لأهم الأبعاد العقائدية التي تستخلص من دعاء الزهراء (عليها السلام) لطلب تفريج الهموم والغموم حيث ان هناك حاجة ماسة في وقتنا الحالي لهذا الدعاء للظروف الصعبة التي يمر بها شعبنا، وقراءة الدعاء قراءة عابرة بدون فهم العبارات، لن يولّد الإحساس والتوجه الحقيقي للقاضي للحاجات الخالق القادر، فإذن لابد ان تكون هناك معرفة ولو إجمالية لمضامين الدعاء. التمهيد: أهمية دعاء الزهراء (عليها السلام) من المعلوم ان النتاج الفكري الكبير للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد ضم في طياته العديد من المواضيع، والتي تناولتها بأسلوبها الخاص من خلال الدعاء والذي يُعرف بأنه سلاح المؤمن، حيث لا يوجد عبادة تقرب الإنسان إلى ربه أفضل من الدعاء، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "عليكم بالدعاء فإنكم لا تتقربون بمثله" (2). لقد طرقت أدعية الزهراء الباب لأنواع مختلفة من المواضيع، سواء أكانت عن الجانب السياسي أم الديني أم الاجتماعي أم غيرها. ولقد انتهجت الزهراء (عليها السلام) في أدعيتها منهاجاً خاصاً تُيسر للغير من خلاله انتهاج سلوكه والاقتداء به بأبسط الصور، فالكل بحاجة إلى الدعاء، وهذا الاحتياج هو الذي يمثل حلقة الاتصال بالله سبحانه، ومن منا لا يريد هذا الاتصال، ومن منا يعرف طرقه وأساليبه، ومن منا يحسن مناجاته سبحانه بتلك الكيفية من العبائر الموضوعة بأدق الألفاظ، وأجلّ المعاني المكنونة التي يعجز عن إعطاء وصفها البلغاء، وهذا ما جعل أدعيتها (عليها السلام) تحتل الأهمية البالغة كسائر أدعية المعصومين (عليهم السلام). المبحث الأول: الدعاء أهميته وأنواعه: مفهوم الدعاء في اللغة والاصطلاح الدعاء في اللغة: كلمة الدعاء في الأصل هي مصدر لقولك: دعوت الشيء أدعوه دعاءً، أي أن تميل الشيءَ إليك بصوت والكلام يكون منك (3) دعاه: صاح به واستدعاه، ودعوت الله له وعليه ادعوه دعاءً (4) وأصل الدعاء هو الطلب دعا - يدعو - ادعى، فقد جاء في القرآن الكريم: {تدعو من أدبر وتولى} (5)، (أي يأخذه بالعذاب كأنه يدعو إليه) (6). (والدعوة: المرة الواحدة، والدعاء: واحد الأدعية). (7) والدعاء اصطلاحاً: هو الكلام الموجه حصراً، حيث يطلب فيه العبد من ربه القبول والغفران والحاجة لأمرٍ ذي بال، وطلب القبول معتمد على توجه العبد وتخصيص للرب (8)، والدعاء هنا بمعنى السؤال بدليل قوله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}. (9) لمحة عن تاريخ الدعاء لقد عاش الإنسان منذ بدء الخليقة وإلى حد الآن في أطوار مختلفة تكتنفها الصراعات التي تتداخل مع الحياة، وأيضاً الحاجات والرغبات التي لا تنتهي ولا تقف عند حد ما دام على قيد الحياة، فكانت له مطالب بالقضاء على الصراعات وسد الحاجات والرغبات والتغلب عليها، فكانت هناك العديد من الوسائل لكي يحيى الإنسان بسلام مع كل ما يحيط به من الظروف والملابسات، وهذه الوسائل أَخبر بها الله سبحانه على لسان أنبيائه، وكانت أرقى وأهم هذه الوسائل هي الدعاء، حيث إن الهدف منه إصلاح ذات البين بين العبد وربه، والطلب منه عز وجل خاصة، ودعاؤه بالسراء والضراء، والأهم من ذلك أنها مرضية للرب سبحانه (10)، يقول الله عز وجل في محكم كتابه: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلّا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرّعون} (11)، فأصبحت المجتمعات البشرية تعتمد على الدعاء كوسيلة من وسائل الدفاع عن النفس. (12) فضل الدعاء في روايات المعصومين (عليهم السلام) هناك الكثير من الروايات والأخبار الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) تحث على الدعاء وتبين فضيلته ووجوب التمسك به في كل الأحوال، ومنها: 1/الدعاء سلاح المؤمن: ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "الدعاء سلاح المؤمنين وعمود الدين ونور السماوات والأرض". (13) وكان الإمام الرضا (عليه السلام) يقول لأصحابه: "عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل وما سلاح الأنبياء؟ قال: الدعاء". (14) 2/الدعاء أفضل العبادة: جاء عن معاوية بن عمار أنه قال: قلت لأبي عبد الله: رجلين افتتحا الصلاة في ساعة واحدة، فتلا هذا القرآن، فكانت تلاوته أكثر من دعائه، ودعا هذا أكثر، فكان دعاءه أكثر من تلاوته أيهما أفضل ...، فقال (عليه السلام): الدعاء أفضل، أما سمعت قول الله عز وجل: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} (15)، هي والله العبادة، هي والله أفضل ...". (16) 3/الدعاء أحب الأعمال إلى الله: عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: "أحب الأعمال إلى الله سبحانه في الأرض الدعاء وأفضل العبادة العفاف ومنها أنه ينجي من الأعداء وأهل الشقاق ويفتح أبواب الأرزاق". (17) 4/الدعاء يغير القضاء: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر". (18) وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " إن الدعاء يرد القضاء وقد نزل م السماء وقد ابرم إبراماً". (19) 5/بالدعاء ينال الداعي الفضل والرحمة الإلهية: قال أبو عبد الله (عليه السلام): "ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبار إلا استحيا الله عز وجل أن يردها صفراً حتى يجعل فيهما من فضل رحمته ما يشاء. فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح على وجهه ورأسه". (20) القرآن والدعاء لقد ذُكر الدعاء في القرآن الكريم بصور وأشكال مختلفة، وسنقوم بتقسيمه إلى ثلاث صور: 1/دعاء الأنبياء في القرآن: عندما أرسل الله سبحانه أنبيائه إلى الناس جعلهم النموذج الكامل للإنسان البشري، لكي يُقتدى بهم، ويُطاعوا في أوامرهم التي هي أوامره سبحانه، فالأنبياء هم مثال الإنسانية والنموذج الأسمى في البصيرة والحكمة والأخلاق وإلى غير ذلك من الصفات التي توجب لهم الكمال الإنساني، وقد كانوا جميعاً متعلقين بأدب الدعاء (21)، وقد كان دعاؤهم على نوعين: النوع الأول: دعاء عام لهداية البشر إلى طاعة الله وعبادته ورحمتهم ووجوب شكرهم على نعمائه، وهناك أمثلة وردت في الكتاب الكريم، منها ما ورد على لسان نوح (عليه السلام): {قال رب أني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} (22) ، ولسان إبراهيم (عليه السلام): {فاجعل أَفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشركون} (23)، وأيضاً قول إبراهيم: {رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات}. (24) ومن هذا النوع ما كان الدعاء من الأنبياء على الناس وليس لأجلهم، بسبب إجرامهم وطغيانهم وفسادهم في الأرض، كما في قوله تعالى: {وقال نوح ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} (25)، وكذلك قوله تعالى: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}. (26) النوع الثاني: وهو دعاء الأنبياء (عليهم السلام) لأنفسهم باعتبارهم بشر، فهم كغيرهم محتاجين إلى الرحمة الإلهية وكذلك الرزق وكل ما يتفضل به سبحانه هم في حاجته، كما في دعاء نوح (عليه السلام): {قال ربِّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلّا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} (27)، ودعاء إبراهيم (عليه السلام): {ربِّ هب لي من الصالحين}. (28) 2/دعاء الصالحين في القرآن: وهذا النوع من الدعاء يوجد في الكتاب الكريم بكثرة، ويمتاز باشتماله على كل مظاهر الخضوع والخشوع للخالق، واستشعار روح العبودية في نفس الداعي، كما في قوله تعالى: {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} (29)، وقوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ...}. (30) 3/دعاء الإنسان في القرآن: وكثيراً ما يقع هذا الدعاء نتيجة الغفلة والتهاون والرجاء والتمني مع قلة الأمل أو انعدامه في الإجابة، كما في قوله تعالى: {لولا أخرتنا} (31)، وقوله: {قال ربِّ ارجعون} (32)، وأيضاً قوله تعالى: {ربِّ لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}. (33) دعاء فاطمة الزهراء (عليها السلام) ان دعاء السيدة الزهراء (سلام الله عليها) هو مزيج ما بين دعاء الأنبياء ودعاء الصالحين، فهي سليلة النبوة ومعدن الرسالة، فالزهراء تمثل الأنموذج الكامل والمتكامل ذاتياً وتربوياً، فقد تجمعت فيها سائر الكمالات البشرية، فهي ابنةٌ للمعصوم، وزوجةٌ للمعصوم، وأمٌ للمعصومين (عليهم سلام الله أجمعين). (34) وأيضاً هي كانت مهبط للملائكة، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): "سُميت فاطمة مُحدثة؛ لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما كانت تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين" (35)، فلابد أن تكون أدعيتها جامعة لكلا الطرفين (الأنبياء والصالحين)، فمن الخصائص التي خصصت بها فاطمة الزهراء (عليها السلام) تساويها مع بعض الأنبياء العظام، وهذا له دلالة على أفضليتها على نحو الإجمال. (36) لقد حرصت السيدة الزهراء كما حرص الرسول والأئمة (سلام الله عليهم) على توجيه الناس أصحاب الفطرة السليمة والإيمان الصادق بالاتجاه الذي يكونون من خلاله قادرين على الاتصال بالله تعالى، فحرصوا على تعليم الناس الدعاء لكي يسيروا على وفق خط ومنهج سليم بعيداً عن الثغرات التي تخترق الطريق، فكان الدعاء هو الوسيلة الحقيقية الباعثة في نفس الإنسان (قوة الإيمان والعقيدة وروح التضحية في سبيل الحق، وتعرفه العبادة، ولذة مناجاة الله تعالى والانقطاع إليه، وتلقنه ما يجب على الإنسان أن يصلحه لدينه، وما يقربه إلى الله تعالى زلفى، ويبعده عن المفاسد والأهواء والبدع الباطلة) (37)، ولقد عُرف عن السيدة فاطمة الزهراء كثرة أدعيتها، حتى كان لها (سلام الله عليها) صحيفة أطلق عليها (الصحيفة الفاطمية)، ولهذه الصحيفة سمات عظيمة وجليلة، وخصائص متبعة، ومزايا رفيعة، وقد اختص بها الله أولياءه دون سواهم، حيث لا يوجد من يشاطرهم أحد مما خلق (38)، وهذا ما يدل على عظم وسمو منزلتها (عليها السلام) لقد أصبحت الأدعية الفاطمية ورداً يُتعبد به أغلب المؤمنين، فبالإضافة إلى ما حباها الله سبحانه به من خصائص وامتيازات، فقد امتازت أدعيتها (عليها السلام) بالآثار التربوية والنفسية والاجتماعية والتي لها الأثر البالغ في نفس الداعي، وهذا بحد ذاته تربية روحية للإنسان. _____________________ 1. سورة النور، الآية: 36. 2. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج93، ص293. 3. ينظر، أحمد بن فارس، مقاييس اللغة، ج2، ص279. 4. ينظر، الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، ج2، ص221. 5. سورة المعارج، الآية: 2. 6. أبو هلال الحسن بن عبد الله، الفروق اللغوية، 1421:3. 7. ابن عصفور، شرح جمل الزجاجي، ج2، ص540. 8. ينظر، مفتاح الفلاح، ص207. 9. سورة غافر، الآية: 60 10. ينظر، الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج7، ص264. 11. سورة الأعراف، الآية: 94. 12. ينظر، محمد حسين فضل الله، في رحاب الدعاء، ص15. 13. ابن طاووس، فلاح السائل، ص28. 14. الكليني، الكافي، ج2، ص468، ح3. 15. سورة غافر، الآية: 6. 16. الميرزا القمي، غنائم الأيام، ج3، ص92. 17. ابن طاووس، فلاح السائل، ص26. 18. الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، ص523. 19. الكليني، الكافي، ج2، ص469، ح3. 20. ن.م، ج2، ص471، ح2. 21. ينظر، حسين أنصاريان، شرح دعاء كميل، ص17. 22. سورة نوح، الآية: 5. 23. سورة إبراهيم، الآية: 37. 24. سورة البقرة، الآية: 126. 25. سورة نوح، الآية: 26. 26. سورة يونس، الآية: 88. 27. سورة هود، الآية: 47. 28. سورة الصافات، الآية: 100. 29. سورة الممتحنة، الآية: 4. 30. سورة البقرة، الآية: 286. 31. سورة النساء، الآية: 76. 32. سورة المؤمنون، الآية: 99. 33. سورة المنافقون، الآية: 10. 34. ينظر، مرتضى علي الحلي، الصديقة الزهراء الأسوة الحسنة، ص11. 35. الطبري الصغير الشيعي، دلائل الإمامة، ص81. 36. ينظر، الكجوري، محمد باقر، الخصائص الفاطمية، ج1، ص533. 37. المظفر، محمد رضا، عقائد الإمامية، ص89. 38. ينظر، رسمية عبد الكاظم الموسوي، مصحف فاطمة بين النفي والإثبات، ص60.

اخرى
منذ 6 سنوات
5852

الأخســــرون أعمـــالاً

ينزع الإنسان في معاملاته اليومية الى أن يربح في كل شيء، ويولّد الخسران عنده شعوراً بالحزن والألم وإن كان ما يخسره أمراً غير بالغ الأهمية. ويُطلق الخسران عادة عند عدم الربح، إلا إن الخسران الواقعي هو لايقتصر على عدم الربح وحسب بل يتعدى ذلك إلى فقدان رأس المال أيضاً. ولما كان الإنسان لا يملك رأس مال في الحياة الدنيا أشد أهمية من العقل والعمر والصحة والشباب، وبما أنه يستخدمها كوقود وطاقة لما يعمله فيها، إذن فالربح والخسران يتوقف على قيمة ما يعمل وأهميته وجدواه في الدار الآخرة، وهي الحياة الباقية الخالدة. فإن كان مجدياً له في تلك الحياة ومزحزحا له عن النار إلى الجنة كان عندئذ من الفائزين فوزاً عظيماً، وأما إن لم تَحُلْ أعماله بينه وبين دخول النار فذلك هو الخسران المبين، بل وقد تقوده إلى النار وأولئك هم الأخسرون؛ لأنهم قد أوقدوا كل ما وهبه الله (تعالى) لهم من رأس مال من سنّي عمرهم وزهرة شبابهم وقوّة عقلهم وجمال صحتهم في سبيل ما كانوا يعملون، فإن كان ما يعملون لا قيمة له، إذن فلم يخسروا الربح في هذه الحالة وحسب بل وخسروا رأس مالهم أيضاً. وقد يخسر الإنسان في بعض معاملاته، إلا أنه يدرك خطأه في القابل منها ويتجاوزه، فيجبر خسرانه السابق بربح لاحق، فإذا مرّت عليه وأعاد حساباته يجد نفسه رابحاً وحينئذ لا يمكن اعتباره بأنه قد خسر، فضلاً عن أن نصف خسارته بأنها كبيرة. و أما من يخسر في معاملاته نتيجة لأعماله ويبقى مصراً على تلك الأعمال فلا يصلحها ولا يقومها فضلاً عن أن يغيرها ويبدلها فإن مثل هذا الإنسان في خسارة دائمة، ويتضاعف خسرانه فيما لو فقد كل من رأس ماله المادي والمعنوي بسبب خيارات خاطئة ومشاريع فاشلة ويبقى متمسكا بها غير ملتفت الى أنها السبب في خسارته، فيكرّرها ويكرّرها ويكون خسرانه عظيماً فيما لو لم تُتَح له فرصة أخرى لجبر ما خسره من الثروة التي فقدها. صفات الأخسرين أعمالاً : بعد أن اتضحت لنا الآثار الوخيمة للخسران لا بد من التعرف على أهم صفات وسمات الأخسرين أعمالا لنتدارك أنفسنا وننتشلها من مستنقع الخسران إن اتسمت بسماتهم ولنقيها أن تكون كذلك إن لم تكن منهم بعد. و قد تناول الباري (عز وجل ) صفاتهم في قوله : " قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَْخْسَرِينَ أَعْملا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(104) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِئَايتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآئِهِ فَحَبِطَتْ أَعْملُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَزْناً(105) ذلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَُذُوا ءَايتِى وَرُسُلِى هُزُواً(106) "(1). ومن أهم سماتهم: أولاً: ضلال سعيهم في الحياة الدنيا: فمن صفات الأخسرين أعمالاً إن لهم سعي في هذه الحياة الدنيا وأعمالاً إلا أنها ضلّت، ولعلّ في هذه إشارة إلى حقيقة أنَّ أعمال الإِنسان لا تفنى، فهي كالمادة والطاقة يطرأ عليها التبدّل والتغيّر إلا أنها لا تفنى، ولكن قد تختفي أحياناً؛ لعدم إمكان مشاهدة آثارها بالعين، ولا يمكن الاستفادة مِنها بأي شكل مِن الأشكال، فهي كرأس المال الضائع الذي لا هو في حوزتنا فنستفيد مِنهُ، ولا هو فانٍ. ثانياً: الجهل المركب: الجهل من السمات المذمومة، وأشده ذماً الجهل المركب وهو أن يجهل الإنسان ويجهل أنه يجهل؛ وذلك لأن الإنسان إذا علم بجهله فقد يسعى يوماً إلى إزالته بالتعلم. وأما الإنسان الذي يجهل بأنه جاهل فهذا لا يمكن أن يتصور أن يزيل جهله يوماً لعدم علمه به أساساً. ثالثاً: الكفر بالإيمان: ويكون الإنسان كافراً بالإيمان عندما لا يخلو قلبه من الاعتقادات الحقة التي هي منشأ الأعمال الصالحة، إلا أنه يترك العمل بما يعلم، وبما أن معنى الكفر هو الستر، ولا يصدق ستر الأمور الثابتة إلا مع المداومة، فالكفر بالإيمان إذن إنما يصدق إذا داوم الإنسان على ترك العمل بما يقتضيه إيمانه. (فتارك الاتباع لما حقّ عنده من الحق، وثبت عنده من أركان الدين كافر بالإيمان، حابط العمل كما قال تعالى: "فقد حبط عمله" )(2) والمصاديق التي ذكرت في الروايات على الأخسرين أعمالا متعددة منها ما روي إن ابن الكواء سأله قائلاً : « يا أمير المؤمنين أخبرني عن قول الله (عز وجل) : (هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا)الآية... قال: كفرة أهل الكتاب: اليهود والنصارى، وقد كانوا على الحق فابتدعوا في أديانهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ثم نزل عن المنبر وضرب بيده على منكب ابن الكواء ثم قال: يا ابن الكواء وما أهل النهروان منهم ببعيد، فقال: يا أمير المؤمنين ما أريد غيرك ولا أسأل سواك، قال[الراوي]: فرأينا ابن الكواء يوم النهروان فقيل له: ثكلتك أمك، بالأمس كنت تسأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عما سألته وأنت اليوم تقاتله! فرأينا رجلاً حمل عليه فطعنه فقتله » (3) كما روي عنه (عليه السلام) من كتابه إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني، وهو عامله على أردشير خرة: " بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وعصيت إمامك: أنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، واريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقاً لتجدن لك عليّ هواناً، ولتخفنّ عندي ميزاناً، فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالا. ألا وإن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء، يردون عندي عليه، ويصدرون عنه "(4) ما هو مصدر هذا الإِنحراف الخطير؟ يحق للقاريء الكريم أن يتساءل عن السبب الذي يحمل البعض على هذا الخسران، ويمكننا أن نجيب عن ذلك: أولاً : التعصب القوي والغرور والتكبر وحب الذات، تعد مِن أهم الأسباب التي تنتهي بالإنسان إِلى تصورات خاطئة يعمل وفقاً لها ويحول غروره دون الاستماع إلى من يعظه وينبهه على خطئه. ثانياً : تزيين الشيطان لأعماله السيئة وتصويرها له بأنها صائبة مما يدعوه إلى التمسك بها، قال (تعالى): " أفمن زُين لهُ سوء عمله فرآه حسناً " (5) ، وفي قوله (تعالى): " وإِذ زيَّن لهم الشيطان أعمالهم وقالَ لا غالب لكم اليوم مِن الناس وإِنّي جار لكم " (6). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الكهف 103 ــ 106 (2) تفسير الميزان ج5 ص20 (3) بحار الانوار ج10 ص123 (4) ميزان الحكمة ج11 ص401و402 (5) فاطر 8 (6) الأنفال 48

اخرى
منذ 7 سنوات
3962

شبهاتٌ عقائدية حول مذهب التشيع/ في النبوة(3) عصمة النبي في تطبيق الرسالة

اختلفت المذاهب الكلامية في العصمة في هذا المقام إلى خمسة أقوال: الاول: مذهب أصحابنا الاِمامية: وهو أنّه لا يصدر عنهم الذنب لا صغيرة ولا كبيرة، لا عمداً ولا نسياناً، ولا يخطأ في التأويل، ولا للإسهاء من الله سبحانه. ولم يخالف فيه إلاّ الصدوق، وشيخه محمد بن الحسن بن الوليد قدس سرهما، فإنّهما جوّزا الإسهاء من الله تعالى، لا السهو الذي يكون من الشيطان، وسيتم الرد عليه. الثاني: قول أكثر المعتزلة: أنه [أي وقت العصمة] وقت النبوة، وأما قبله وهو أنّه لا يجوز عليهم الكبائر، ويجوز عليهم الصغائر، إلاّ الصغائر الخسيسة المنفّرة كسرقة حبة، أو لقمة، وكل ما ينسب فاعله إلى الدناءة والضّعة. الثالث: قول أبي علي الجبائي: وهو أنّه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة، ولا كبيرة على جهة العمد، لكن يجوز على جهة التأويل، أو السهو. الرابع: قول النظام وجعفر بن مبشر ومن تبعهما: وهو أنّه لا يقع منهم الذنب إلاّ على جهة السهو والخطأ، لكنّهم مؤاخذون بما يقع منهم سهواً، وإن كان موضوعاً عن أُممهم لقوّة معرفتهم وعلو رتبتهم، وكثرة دلائلهم، وإنّهم يقدرون من التحفظ على ما لا يقدر عليه غيرهم. الخامس: قول الحشوية، وكثير من أصحاب الحديث من العامّة: وهو أنّه يجوز عليهم الكبائر والصغائر، عمداً وسهواً وخطأً. والصحيح أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) يجب أن يكون منزهاً عن الخطأ في تطبيق الرسالة السماوية؛ لقيام الدليل العقلي والنقلي على ذلك، وهذا ما سيتم تناوله ضمن المطلبين التاليين. المطلب الأول: الدليل العقلي على عصمة النبي في تطبيق الرسالة 1-لو لم يكن النبي معصوماً في تطبيق الرسالة للزم نفور الناس من حوله وعدم الوثوق به وبتعاليمه. والتالي باطل فالمقدم مثله في البطلان. بيان الملازمة: إنّ الغاية من بعثة الأنبياء هي هداية العباد، وهذه الغاية لا تتحقق إلاّ بوثوق الناس والتفافهم حول النبي وتصديقهم بقوله، لكنهم متى ما شاهدوا نبياً يسهو في تطبيق الشريعة التي أمرهم بها، أو يخطأ في اموره الفردية والاجتماعية فإنّ ذلك سيخرم وثاقته تجاههم ويبدلونها شكا، فيأخذون يتساءلون: هل أنّ التكاليف التي يأمرنا به النبي هل هي حقاً إلهية؟ أم أنّ النبي اشتبه في أمرهم بها ؟ وهل أنّ النبي خيّل إليه أنّه جاءه الوحي أم حقاً نزل عليه وأخبره بتلك التكاليف؟ إذاً مثلما النبي (صلى الله عليه وآله) معصوم في تلقي الرسالة فهو معصوم في تطبيقها، والملازمة أعلاه كفيلة ببيان ذلك. "ولابد من الإشارة إلى أنّ عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية قادرة على التفكيك بين (عصمة النبي في تلقي الوحي) وبين (عصمة النبي في الامور الاخرى)، أمّا عامة الناس والهمج الرعاع فهم غير قادرون على التفكيك فيجعلون السهو في أحد المقامات (تطبيق الرسالة) طريقاً إلى السهو في المقامات الاخرى (تلقي الرسالة)- ولسد هذا الباب لابد من القول بتنزيه النبي في كافة المراحل"(1). 2- لو لم يكن النبي معصوماً في تطبيق الرسالة لجاز تعديه على أحكام الله تعالى، والمتعدي لذلك ظالم. والتالي باطل فالمقدم مثله في البطلان. بيان الملازمة: لو أخطأ أو نسى أو اشتبه النبي (صلى الله عليه وآله) في احدى عباداته أو معاملاته كما لو اشتبه في حكم الربا وعمل به فقد تعدى الحكم الواقعي المفترض من قبل الله تعالى، وبذلك يكون قد ظلمَ نفسه –بعصيانه لحكم خالقه- استناداً للآية الكريمة: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه}(2). 3- لو لم يكن النبي معصوماً في تطبيق الرسالة للزم أن يُحتمل الكذب في كلامه. والتالي باطل فالمقدم مثله في البطلان. بيان الملازمة: لو أخطأ النبي في ركعات الصلاة مثلاً وصلاها ركعتان وأخبر قومه بأنّها أربع ركعات لجاز عليه احتمال عدم الوثوق بقوله وعدالته، عندئذٍ يكون بحكم من يجب التحري من كلامه؛ بدلالة الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}(3). 4- لو لم يكن النبي معصوماً في تطبيق الرسالة لكان ذلك تغريراً بالوقع بالمعصية، إذ يجب الاقتداء به استناداً للآية الكريمة: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة}(4). والتالي باطل فالمقدم مثله في البطلان. بيان الملازمة: لو أخطأ النبي في بيان حكم الحج مثلاً لوجب على المسلمين العمل بخطئه على أنّه سنّة نبوية. 5- لو لم يكن النبي معصوماً في تطبيق الرسالة للزم تكذيب الله تعالى حينما يأمر رسوله بالقول: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم}(5)، والتالي باطل فالمقدم مثله في البطلان. بيان الملازمة: لو أخطأ النبي في حكم وجوب الصوم مثلاً وقال: إنّ الصوم عشرة أيام، فمن يتبعه كيف يكون محبوباً عند الله تعالى وهو قد ترك أداء العبادة الصحيحة ! فيلزم كذب الآية الكريمة، وحاشا الله سبحانه. المطلب الثاني: الدليل النقلي على عصمة النبي في تطبيق الرسالة الفرع الأول: الدليل القرآني قال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيما}(6). فعلى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يحكم بما أراه الله تعالى حينما أخبره الوحي، والحكم هو تطبيق للشريعة فوجب أن يكون حكمه مطابقاً لما أراه الله ايّاه، وإلاّ عد خائنا. الفرع الثاني: الدليل الروائي وآراء العلماء. أولاً: الدليل الروائي من كتب الشيعة ١-روي الشيخ الطوسي (قدس سره) "أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما سجد سجدتي سهو قط"(7). ٢-قال المحقق الطوسي (قدس سره): "يجب في النبي العصمة والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وكل ما ينفّر عنه"(8). 3- قال الفاضل المقداد السيوري (قدس سره): " وأصحابنا حكموا بعصمتهم مطلقاً قبل النبوة وبعدها عن الصغائر والكبائر عمداً وسهواً، بل وعن السهو مطلقاً، ولو في القسم الرابع، ونقصد به الافعال المتعلّقة بأحوال معاشهم في الدنيا مما ليس دينياً"(9). نعم/ توجد هناك روايات مروية عن زرارة تثبت السهو للنبي في صلاته قال بها الشيخ الصدوق موافقاً بها استاذه ابن الوليد أوضحت: أنّ أدنى درجات الغلو عدم القول بسهو النبي. ولكن يمكن القول بأن الروايات القائلة بسهو النبي محمولة على التقية مجاراةً لأبناء العامة، أو يكون مقصود أصحاب تلك النظرية -الشاذة عن اجماع علماء الشيعة- هو إمكان وقوع الإسهاء من الله تعالى على نبيّه، وليس السهو الناتج من غلبة الشيطان على العقل. علماً أنّ علمائنا ردّوا برسائل وكتب عديدة في نفي السهو عن النبي(10). وأما الرأي الغالب والمشهور هو ما أجمع عليه الإمامية هو القول بعدم جواز السهو على النبي؛ للأدلة التالية: 1- لمخالفتها للأدلة العقلية النافية للسهو. 2- لمخالفتها لأخبار واجماع الإمامية برواياتهم الدالة على مصونية الأنبياء. ثانياً: الدليل الروائي من كتب أبناء العامة وأقوال بعض علمائهم. ١-قال إمامهم مسلم في صحيحه: "عن ‏ ‏علقمة ‏، ‏قال : قال عبد الله ‏: ‏صلى رسول الله ‏ (ص[صلى الله عليه وآله]) ‏، ‏قال إبراهيم ‏: ‏زاد أو نقص ‏ ‏فلما سلم ، قيل له : يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء ، قال : وما ذاك ، قالوا : صليت كذا وكذا ، قال : فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال : ‏إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر ‏ ‏أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته ‏ ‏فليتحر ‏ ‏الصواب فليتم عليه ، ثم ليسجد سجدتين"(11). فالرواية أعلاه تؤكد سهو النبي (صلى الله عليه وآله) في تطبيق أحد الشرائع السماوية، وهي الصلاة. ٢- قال ابن حنبل في مسنده: "عن عبد الله ‏، ‏قال : ‏صلى رسول الله ‏(ص[صلى الله عليه وآله]) ‏ ‏صلاة فلا أدري زاد أم نقص فلما سلم ، قيل له : يا رسول الله : هل حدث في الصلاة شيء ، قال : لا وما ذاك ، قالوا : صليت كذا وكذا ، قال : فثنى رجليه فسجد سجدتي السهو فلما سلم ، قال : ‏إنما أنا بشر أنسى كما تنسون وإذا شك أحدكم في الصلاة ‏ ‏فليتحر ‏ ‏الصلاة فإذا سلم فليسجد سجدتين"(12). فالعبارة واحدة في الروايتين، وقد تبيّن بطلان قولها عقلاً ونقلاً في المطلب الأول. 3- قال ابن تيمية شيخ الوهابية: "القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء ‏الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدي ‏أن هذا قول الأشعرية، وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم ينقل ‏عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول. والدليل على ‏وقوع الصغائر منهم مع عدم إقرارهم عليها:‏ ... وهذا نبينا محمد صلى الله عليه[وآله] وسلم يعاتبه ربه سبحانه وتعالى في أمور كثيرة ‏ذكرت في القرآن، منها قوله تعالى (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي ‏مرضات أزواجك والله غفور رحيم) [التحريم : 1] وكذا عاتبه في الأسرى، وفي خبر ‏ابن أم مكتوم"(13).‏ مــلاحظة: قد استدل القوم بتبريراتٍ واهية لإثبات صدور الصغائر –بسبب السهو والخطأ والنسيان- من النبي (صلى الله عليه وآله), منها: 1- قالوا: للتأسي بالنبي عند الوقوع في المعصية بالإسراع في التوبة، وعدم التسويف. ويُــرد عليهم: يجب علينا أن نقع في نفس المعصية التي ارتكبها النبي ثم نتوب حتى يكون تأسينا به مطلقاً – فعلاً وتوبةً-، وإلاّ لا مرجح لجهة التأسي بالتوبة دون التأسي بالوقوع في المعصية. 2- قالوا: ليعرف الناس الفرق بين الإله والنبي، فلا يفضي بالناس الغلو بتعظيم أنبيائهم وعبادتهم مع الله تعالى. ويُــرد عليهم: كفى بالفارق بين الإله والنبي هو أنّ النبي مخلوق محتاج يجوع ويعرى ويمرَض وينكح ويموت ويفنى, وجميع تلك الصفات لا سبيل لانطباقها على الإله، فلماذا اقتصرتم على بيان الفارق بوجوب صدور المعصية من النبي ! نعم- مَن لم يدرك عقله عدم الملازمة بين العصمة والالوهية فذلك لخلل في عقله وتزلزل في عقيدته، وعدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم. فتأملوا. _____________________ (1) ظ: محاضرات في الإلهيات: للشيخ السبحاني، 289. (2) الطلاق: 1. (3) الحجرات: 6. (4) الأحزاب: 21. (5) آل عمران: 31. (6) النساء 105. (7) التهذيب: للشيخ الطوسي، ج2، ص180. (8) كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد: للشيخ الطوسي،ص349. (9) ارشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: للفاضل السيّوري، 304. (10) راجع التنبيه بالمعلوم من البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان، رسالة الشيخ المفيد في نفي السهو عن النبي، بحار الأنوار: ج17، حق اليقين: ج1، ومصابيح الأنوار: ج2. (11) صحيح مسلم: مسلم بن الحجاج، كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب السهو في الصلاة السجود له، 572. (12) مسند أحمد بن حنبل: لأحمد بن حنبل، مسند المكثرين من الصحابة - مسند عبد الله بن مسعود (ر)،3591. (13) مجموع فتاوى ابن تيمية: لابن تيمية، ج4،ص 319. اللهم صلِّ على سيدنا محمد صلاة تخرجنا بها من ظلمات الوهم، وتكرمنا بها بنور الفهم، وتوضح لنا الشكل حتى نفهم، إنّك أنت الأعز الأجل الأعلم، وعلى آله الطاهرين وسلم. علوية الحسيني

اخرى
منذ 7 سنوات
2883

التعليقات

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 7 سنوات
84286

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 7 سنوات
67704

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 7 سنوات
55461

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 6 سنوات
48292

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 7 سنوات
46804

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 7 سنوات
35404